يمكن رصد المؤشرات التالية من خلال الأشلاء والدماء للضحايا المدنيين الأبرياء أمام آلة الحرب العدوانية الإسرائيلية:-

Ad

(1) لقد تجلى الشعور العربي حياً ومتفاعلاً ومتعاطفاً مع قضية الشعب الفلسطيني، رغم ما حدث ويحدث من محاولات تيئيس من العروبة الجامعة وقضاياها ومن محاولات شعوبية لطمسها. هذا هو الشعور العربي الذي عهدناه دائماً: حياً... مخلصاً... متيقظاً لكل ما يجري حوله ويمس قضيته. نتحدث عن شعور الناس ونبضهم قبل كل شيء. ولكن المؤسف أن هؤلاء الناس الطيبين لا يملكون من مقومات القوة الضاربة والرادعة شيئاً. إنهم يتألمون... ويسارعون إلى التبرع والمساندة الشعورية ليس غير. ثم تنتهي المظاهرات «المليونية» إلى لا شيء، عدا التعبير عن الشعور... وهو أضعف الإيمان. وذلك ضعف عربي عام- أهلي ورسمي- متكرر.

(2) الجديد أن العالم، بإعلامه وجماهيره وحكوماته، كان هذه المرة أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين من المرات السابقة، وأكثر انتقاداً لإسرائيل... «شيء ما» سمِّه الضمير أو العقل أو المبادئ بدأ يتنامى في تربة العالم حيال المعاناة الفلسطينية. هذا أمر جديد من واجب الفلسطينيين والعرب متابعته وتنميته والحيلولة دون خنقه أو اجتثاثه. فإسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي حياله، وهي بنفوذها المعروف في العالم ستعمل على اجتثاث البذرة الجديدة.

(3) كرر المسرح السياسي العربي مشاهده الروتينية المملة: دعوة إلى قمة لا تنعقد ويشك الناس في جدواها إن انعقدت. ومزايدات مبتذلة بين معسكرين بلونين مختلفين في الظاهر. لكن معسكر المزايدين، والمحاربين بالكلام والشعارات، لا يقل في واقع الأمر ميلاً لأميركا، ومهادنة لإسرائيل من المعسكر الآخر الذي ينتقده. والناس، بحكم مشاعرهم الهائجة، يتقبلون هذا الكلام. ولا يدركون الحقائق. وهم في حالة ضياع يستغلها معسكر الممانعة كلاماً... وربما اكتشفوا الحقيقة بعد فوات الأوان، كما حدث في تجارب سابقة... ولات ساعة مندم!

(4) مازالت موازين القوة لغير مصلحة العرب: هنا أطفال ونساء يتوارون بحياتهم ودمائهم تحت الأنقاض المتهدمة. وهناك آلات حربية متطورة جديدة، آتية من البنتاغون، تتقدم وتقصف المدنيين والمقاومين بأسلحتهم البسيطة. وثمة من يطالب بجسر جوي عربي ينقل السلاح إلى المقاومة. لو كانت ثمة إمكانية لذلك أما فكرت الدول العربية في تزويد جيوشها بعد إرسالها إلى الجبهات بمثل هذا الجسر؟! والتجارب السابقة تجيب عن هذا السؤال!

(5) يتجه التفكير إلى تفوق السلاح... ومنذ مشروع محمد علي في مصر كان التركيز على امتلاك السلاح المتقدم وتصنيعه أو استيراده. ولكن السلاح وحده يمكن كسره بسلاح أكثر فعاليةً منه. إنه ظاهرة «تقدم» معزولة، وأشبه ما يكون بذراع طويلة في جسم ضئيل لا يحسن استخدامه. لذلك فالتربة العامة للمجتمع بحاجة إلى تفعيل وتنشيط وتحديث. إنها مسألة زمن. ولا توجد حلول سحرية عاجلة. لقد احتاجت أبرز القوى الآسيوية كاليابان والصين والهند إلى زمن غير قصير لتتحول، بالرؤية السليمة والعمل المكثف، إلى قوى ذات وزن وثقل. ولم تركز على السلاح وحده، بل عملت من أجل النهوض الشامل وامتلاك مقومات القدرة الحضارية الحديثة. وهي الآن لا يمكن «كسرها» لأنها بهذه المواصفات.

(6) ولكن الأحداث لا ترحم. والمشروع الإسرائيلي من نتائجه إشغال العرب عن التقدم المخيف لإسرائيل، إن امتلكه العرب. ثم إن العـرب- تاريخـاً وتطـوراً- تـم «اصطيادهم» في منتصف الطريق. فقدرهم التاريخي أنهم يواجهون قوى متقدمة ومتطورة في العالم بموروثات من عصور سابقة. عصـور الطائفة والقبيلة ونحـوهما، وما يتفرع عنهما من مخيال جمـاعي أســطوري. وتبـدو إمكانية «التحرر» العربي من هذه الموروثات بطيئة للغاية، بل إنها تأتي ولا تأتي... هذا هو جوهر المأساة في مواجهة العرب ليس لإسرائيل فحسب، وإنما لزمنهم ولعالمهم ولحياتهم!

(7) إن الحالة الانفعالية الشعورية حيال الإهانات والضربات الإسرائيلية والغربية لا تسمح بتحليل موضوعي عقلي سـليم. في واقع الأمر حقق الفلسـطينيون بـإقامة كيانهم «انتصاراً» تاريخياً لا أحد يتذكره اليوم أو يحفل به. حتى «حماس» خاضت الانتخابات في إطاره... ثم قفزت تطالب فوراً بما هو أكثر!

كانت غولدا مائير، حتى زمن حرب «أكتوبر» 1973، تقول: «أين الفلسطينيون؟... إني لا أراهم»... واليوم قام للفلسطينيين كيان وسلطة يستطيع أن يبرز في إطارهما حتى المعارضون لهما! ولكن إسرائيل تريد «تمييع» هذه الخطوة التاريخية. فمن يتحدث عن إعادة غزة إلى مصر، وإعادة الضفة الغربية إلى الأردن... وذلك محض خيال ولا يمكن تحقيقه على الأرض، ومن يتحدث عن إقامة «دولة واحدة» في فلسطين تضم اليهود والعرب، ولا مجال لدولة فلسطينية مستقلة قاتلت من أجلها أجيال من الفلسطينيين. نعم... إن حل الدولتين «تسـوية تاريخية» مجحفة. ولكن هذا هو الممكن السياسي حالياً في ظل توازنات القوة القائمة... وما لا يُدرك جُله لا يُترك كله... أما «الدولة الواحدة» من اليهود والعرب... فلمن ستكون السيطرة فيها؟ هذا إذا تم قبول فكرتها من الأطراف المختلفة... وذلك محال!

(8) تبقى مصر مركز الثقل والرقم العربي الصعب. وإلى كتابة هذه السطور ثمة وفدان فلسطينيان ووفد إسرائيلي في القاهرة. ومصر اليوم في حالة سلام مع إسرائيل. نعم، ولكن مَن ينكر أنها خاضت أربع حروب من أجل فلسطين لا يتصف بالوفاء.

(9) الأجدى للعرب أن يتحلوا بالصبر على المكاره، وهو صبر اضطراري، ويتيحوا لأنفسهم فرصة للتقييم والمراجعة، لاستخراج الرؤية السليمة وسط الركام، فذلك أجدى من المكابرة والانفعال وجلد الذات على غير طائل.

(10) أثار الرئيس الفلسطيني محمود عباس مسألة خلافية في ذروة الأحداث عندما قال: إذا كانت المقاومة تعني إفناء الشعب الفلسطيني فنحن لا نريدها... والمشكلة ليست في ظاهر هذا الطرح في حد ذاته. المشكلة عندما تطرح حلاً سياسياً ما «البديل» الذي تمتلك في حالة تلكؤ الطرف الآخر في القبول بذلك الحل السياسي السلمي؟ وهذا ينطبق على العرب جميعاً في سعيهم للسلام... ما «البديل»، إذا أجُهض السلام؟ ولا نستثني الصارخين في الفضائيات والتظاهرات... ماذا لديكم من قوة؟!

أخيراً فمن غير المتوقع أن تغير أحداث غزة، على غزارة الدماء التي أريقت فيها، من موازين القوة القائمة. وبعد سكونها ستدخل الأطراف الفلسطينية والعربية في سجال تلاوم بشأن ما حدث لن يزيد الخلاف العربي إلا مرارةً على مرارة! ... وسيبقى المستقبل لمن يريد أن «يعرف» ثم «يعمل»!

* مفكر من البحرين