- 1-

Ad

كان شعار حملة أوباما الانتخابية لمنصب الرئاسة الأميركية هو «التغيير»... والتغيير بمعناه الكبير هو الثورة، والانتقال من حال إلى حال، بينما كان شعار حملة منافسه جون ماكين هو «أميركا أولاً» وهو يعني المحافظة على كل شيء قائم، حتى لا تضيع أميركا، فنجح شعار التغيير وسقط شعار المحافظة، نجح شعار التحوّل وسقط شعار الثبات، وبالتالي سقط شعار الاتباع السياسي، ونجح شعار الإبداع السياسي، نجاحاً كبيراً، بحيث لم تشهد أميركا إقبال 65% مثلما شهدت في هذه الانتخابات التي جاءت بكل جديد، فأميركا اليوم هي أميركا روح الشباب، واندفاعه، وقوته، وطموحاته الكثيرة.

- 2-

ولكن هل شاخت أميركا حقاً، لكي تأتي بشاب كأوباما، ليُجدد لها شبابها، كما كانت في الخمسينيات والستينيات؟

في اعتقادي أن أميركا لم تشخ، إنما خشيت على نفسها من الشيخوخة، ولذلك جاءت بهذا الشاب، الذي يمثل الجيل الجديد من السياسيين في أميركا، ليس بسنه فقط، ولكن بعقليته، وطريقة تفكيره، وطموحاته.

ولو نظرنا إلى أميركا من الداخل، لرأينا أنها تجري لنفسها تجديدات مختلفة، دفعاً لشبح الشيخوخة، ولكي تبقى تمثل شباب الغرب كله، في ديناميته، وقوته، وحيويته.

ففي كل عام، تستقبل أميركا آلاف الشباب المهاجرين، ورغم أن عدد سكانها قد وصل الآن إلى ما يقارب 300 مليون، فإن أراضيها الواسعة والغنية بالمعادن والصالحة للزراعة، تستطيع استيعاب ألف مليون مواطن، وما زالت أميركا حتى الآن تُجري القرعة السنوية بين كل شباب العالم، لاستقبال خمسين ألف مهاجر جديد من كل الأعراق، والأديان، والطوائف، والبلدان.

وما زال آلاف الشباب المتعلم تعليماً ممتازاً، يطمح إلى الهجرة إلى أميركا، حيث لا مكان على الكرة الأرضية، يستطيع تحقيق حلم الشباب كأميركا، كما قال أوباما في حديقة جرانت بارك في شيكاغو عشية فوزه بالانتخابات.

-3-

فأميركا التي يُبشر أعداؤها وكارهوها في الشرق والغرب، بانهيار إمبراطوريتها غداً أو بعد غد قوية وهم واهمون، فهي ليست من عرق واحد، حتى تنهار كبقية الإمبراطوريات في التاريخ، وهي ليست من جنسية واحدة لكي تصاب بالشيخوخة السريعة، كما هي الحال في الدول الأوروبية، ولا هي من دين واحد، لكي تتعصب له تعصباً أعمى.

أميركا هي كل هذا العالم ببيضه وسوده، بأفارقته، وأروبييه، وآسيوييه، ولاتينييه، وعربه، ويهوده، وبوذييه. أميركا هي كل هذا العالم... مخطئاً ومصيباً، وانهيارها هو انهيار للعالم، فمن هو وريث أميركا لو انهارت غداً، أو بعد غد؟

ورأينا ماذا كان يحصل عندما كانت تتدنى مؤشرات السوق المالي، في وول ستريت كل يوم، وشاهدنا ما حصل في بورصات العالم، عندما انهارت البورصة الأميركية، وحدثت الأزمة المالية الأميركية، وأفلست بعض الشركات الأميركية... لقد انهارت كل بورصات العالم تقريباً، وأعلن العالم إفلاسه!

-4 -

وتجديد شباب أميركا، وإبعاد شبح الشيخوخة عنها، لا يمكن أن يتمَّ بمجرد استقطاب الشباب من كل أنحاء العالم للعمل والعيش فيها، ولكن تجديد الشباب هنا يعني تقديم كل ما هو جديد للعالم والمجتمع الإنساني، في كل مجالات الحياة.

فأميركا اليوم أصبحت كالمرأة الولاّدة ذات الذُرية الكثيرة، فهي التي تقدم لنا في كل يوم جديداً في مجال الصناعة، والعلوم، والآداب، والفنون. في كل عام تُتوج جائزة نوبل فائزاً، أو فائزين، أو ثلاثة من أميركا، كذلك تفعل جائزة الملك فيصل العالمية. وهو دليل واضح وصريح على أن أميركا تُجدد شبابها في كل عام، بهؤلاء العلماء. فشباب الأمة أو شيخوختها لا يقاسا بنسبة الشباب الذين فيها، ولكن بنسبة إنتاجها الجديد في كل عام، في كل المجالات الفنية، والعلمية، والأدبية، وهذا هو عنوان الشباب الحقيقي، لأي أمة.

- 5 -

وفي المجال السياسي أرادت أميركا هذا العام أن تجدد شبابها أيضاً، بعد أن شاخت سياستها الداخلية والخارجية، وبدأت جدران بنائها السياسي تتصدع، فدُقت النواقيس، وقام الخفراء والخبراء يحذرون وينذرون، وكان انتخاب باراك أوباما هو عنوان هذا التجديد، فشعار حملته الانتخابية كان «التغيير»... وهذا الشعار يحمل أفكاراً طموحة وكثيرة، وهي أكثر من قدرة أوباما وفريقه على تحقيقها في فترته الرئاسية الأولى، كما قال في أول لقاء صحفي معه في شيكاغو، وفي مختلف خطبه أثناء حملته الانتخابية.

والملفت للنظر، أن نجاح أوباما في الانتخابات الرئاسية تزامن مع انتصار آخر مواز للحزب الديمقراطي في مجلسي الشيوخ والنواب، حيث تمكن الحزب من تعزيز قبضته على الكونغرس بمجلسيه، مدعماً من قدرة أوباما على تنفيذ وعوده بالتغيير، في ظل سيطرة حزبه على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو ما دفع الأسواق المالية في مختلف أنحاء العالم، للصعود تفاؤلاً بسيطرة الديمقراطيين على السلطة في أميركا، فقد كان الحزب الديمقراطي يمثل دائماً في أميركا روح الشباب، وليبراليتهم، ويأتي بعد سنوات عجاف، وتشققات في البناء السياسي الأميركي العام.

- 6 -

هل سيستطيع أوباما تجديد شباب أميركا، قبل أن تدركها الشيخوخة؟ لقد مرت أميركا بأزمات سياسية واقتصادية كثيرة، واستطاعت على مدار عشرات السنوات الماضية، أن تُضمِّد جراح هذه الأزمات، وتُوقف نزيفها. في حين أن إمبراطورية مماثلة لها كالاتحاد السوفييتي السابق، لم تستطع تضميد جراحه وانهار في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

فما أسباب ذلك؟ وما الذي يجعل رئيساً كأوباما قادراً على النهوض بأميركا من جديد؟ وهل لو وجد أوباما في إمبراطورية غير أميركا، فهل كان بمقدوره أن ينجح في الوصول إلى كرسي الرئاسة، وبالتالي في ترميم الهيكل الأميركي؟

إن ميزة أميركا الأولى أنها دولة وطنية وليست دولة قومية، وأنها دولة تمتاز بمرونة نادرة، وهذه المرونة أهّلتها لأن تستوعب كل الهزات السياسية والاقتصادية التي تعرضت لها. وميزتها كذلك أنها بلد يمارس فيه شعبها حريته في أقصى حدودها «زواج المثليين من الرجال والنساء». وأكاد أُشبّه أميركا بسيارة ذات دفع رُباعي، ومزودة بعدد كبير من «السوست» أو «اليايات) Shocks Absorber، القادرة على امتصاص كل أنواع الصدمات الناتجة، عن كثير من المطبّات، التي تقع فيها كثير من الدول، وتتكسر وتزول، كالاتحاد السوفييتي السابق، الذي كان نظاماً مُتخشّباً، غير مرن، وغير قابل للانحناء، في وجه رياح العصر، فانكسر وزال.

* كاتب أردني