في وداع محمود درويش
هو مجرد تصورٍ افتراضي و«سيناريو» خيالي... فعندما كان ناجي العلي، وإدوارد سعيد، وإبراهيم أبو لغد، وهشام الشرابي، و«أبو سلمى»، وعبدالرحيم محمود، وكمال ناصر... وأيضاً ماجد أبو شرار، وحنا مقبل، وغسان كنفاني، ومعين بسيسو أمس في انتظار محمود درويش، وهو يدْلف إلى مثواه الأخير، فإنهم بالتأكيد سألوه عمَّا وراءه وعن حال وأحوال القضية الفلسطينية التي أعطاها قلبه وحملها على أجنحة جوارحه إلى أن هاجر الهجرة الأخيرة عندما فارق الحياه أو فارقته الحياة في ذلك المستشفى البعيد بالولايات المتحدة.وبالتأكيد أن محمود درويش ردَّ على هذا السؤال بدمعة ساخنة... وبصمت قبل أن ينفجر ويردد بصوته الشَّجي:
خسِرْتُ حُلماً جميلاًخسِرْتُ لسْع الزَّنابقوكان ليلي طويلاً على سياجِ الحدائقْقبل استشهاد ناجي العلي (أبو خالد) بأيامٍ قليلة كان هناك لقاءٌ مسائي في منزل الصحافي من الأرض المحتلة عام 1948 أديب أبو علوان ضمَّ محمود درويش وسميح القاسم، بالإضافة إليّ أنا العبد الفقير إلى الله عزّ وجل، وكان هناك كلام ساخن كالعادة اختلط فيه العتاب باستعراض الرحلة الفلسطينية المضُنية الطويلة، وبالحديث عن عملية السلام التي كانت بدأت باتصالات خجولة مع اليسار الإسرائيلي وبمفاوضات مُقنَّعة بين السفير الأميركي في تونس في ذلك الحين، وبعض الذين رافقوا جثمان شاعر فلسطين الكبير من مطار «ماركا» في عمان إلى رام الله حيث دفن في تراب الوطن، الذي بقي يحلم بتحريره منذ أن كان طفلاً «يتَعمشقُ» على أسوار عكا حتى أغمض عينيه الجميلتين في ذلك المستشفى الغريب البعيد بالولايات المتحدة. في تلك الجلسة التي لم تتكرر إطلاقاً، والتي كانت مجال تذكُّر وذكريات بين سميح القاسم وبيني قبل أيام عندما كنّا مع آخرين لتناول العشاء في منزل شاعر الأردن المبدع حبيب الزيودي في العالوك، كانت هناك «مُهارَشةٌ» بين محمود درويش وناجي العلي، وكان هناك وُدٌّ، وكانت مناكفة... وكان توَجُّدٌ وحديث حول ما إذا كان سيمهِلهما القدر إلى أن يريا فلسطين محررة... ولقد شمل تبادل الهموم في تلك الليلة اللندنية حالة التمزق الشديد التي كانت تعيشها الساحة الفلسطينية التي أُبتليت بالتمزق على مدى نحو قرن كامل، ويبدو أنها ستتزداد تمزقاً كلما ظن الشعب الفلسطيني العظيم أن لحظة انبلاج الفجر قد اقتربت.لم ينظر محمود درويش في عيون ناجي العلي، وإدوارد سعيد، وهشام الشرابي، ومُعين بسيسو، وإبراهيم أبو لُغد، وغسان كنفاني، وعبدالرحيم محمود، وعبدالكريم الكرمي (أبو سلمى)، وأخذ يقول بخجل يختلط فيه الحزن بالمرارة: إن ليل الشعب الفلسطيني لايزال طويلاً، إن فجره لايزال بعيداً... لقد تركت قبائل تقتتل وتتناحر على جلد الدُّب قبل اصطياده... لقد تركت مناذرة يخوضون حروب الفرس وغساسنة يخوضون حروب الروم... لقد تركت عرباً عاربة وعرباً مستعربة... لقد استجدت الانقلابات العسكرية من جديد، ولقد تركت العراق يذبحه أهله ويذبحه الغرباء بسيوف الطائفية... لقد تركت لبنان الذي تعرفونه شوارع ينعق فيها البوم وزواريب تستيقظ في جوانبها الحرب الأهلية المدمرة.نظر محمود درويش إلى معين بسيسو من طرف عين مطرقة يملؤها الخجل وقال: هل تسألني عن حيِّ «الشجاعية» في غزة؟! لا تسأل يا أبا توفيق لقد اجتاحته جيوش المناذرة الذين يخوضون معركة الفرس في مدينة الشافعي، ولكن تحت راية الولي الفقيه والابتهال إلى الله ألّا يطيل غيبة المهدي المنتظر... لقد ذبحوا «الشجاعية»... والشجاعة من الوريد إلى الوريد، لقد ألجأوا أهل شجاعيتك إلى الاستجارة بالذين يحتلون فلسطين... هل تتصور هذا يا معين... ثم أغمض محمود عينه خجلاً إلى الأبد! وعندها بدأ مِعين يُنشد:-أنا إن سقطتُ فخُذ مكاني يا رفيقي في السلاحْ وأحْمِلْ جراحي لا يُخِفك دمي ينزُّ من الجِراحْ*كاتب وسياسي أردني