لبنان: جبلك حق والحق ما بيموت
زرنا لبنان أواخر هذا الصيف لأول مرة بعد حرب 2006، وقضينا فيها سبعة أيام، كنا نفطر ونتغدى ونتعشى سياسة. وحدها السياسة، منذ وصولنا إلى بيروت، كانت محور أحاديثنا... مع موظفي المطار والأصدقاء والجيران والعاملين في المحال، ولكن في كل مكان نشم رائحة الغضب... الحزن... القلق... الكراهية التي تنبعث مع كل كلمة أو همسة رغم محاولات إخفائها، فالتساؤل الذي يملأ الزمان والمكان هو: لبنان... إلى أين؟ وهل ثمة أمل يلوح في الأفق في دولة الدويلات وفي مجتمع مثقل بالتسلح غير الشرعي والتسييس المفرط؟ أسئلة كثيرة كانت تجوب بخاطري... ولم يشف فضولي إلا أصدقاؤنا وجيراننا اللبنانيون، الذين أضافوا إلى رحلتنا نكهة خاصة. فلاتزال ذاكرة اللبنانيين حية... ولاتزال ذكريات الحرب الأهلية وحرب 2006 ماثلة في أذهانهم. فيروون لنا باليوم والشهر والسنة قصة أطنان من الأوجاع والآلام بسبب الطائفية البغيضة وتصارع القوى المحلية والإقليمية في لبنان، من حربها الأهلية بين الديانات والطوائف التي استمرت خمسة عشر عاماً إلى حروبها الأخيرة التي جرها لها «حزب الله».
في لبنان الكل منتصر ما عدا لبنان... القوى والطوائف المحلية والإقليمية تحتفل بانتصارها وتنتشي لمكاسبها ما عدا الوطن... من أواخر هذه الانتصارات «انتصار» حزب الله حين أدخل لبنان، بحجة تحرير سمير قنطار، في حرب مدمرة راح ضحيتها 1200 قتيل والآلاف من الجرحى والمصابين، انتصر الحزب وخسر لبنان الكثير من تشريد وتخريب وترهيب وتدمير للبنى التحتية. وانتصر الحزب مرة أخرى في تحقيقه «للوعد الصادق» من خلال عملية تبادل الأسرى الخمسة التي أطلق عليها اسم «الرضوان» (وهو الاسم الرمزي لعماد مغنية). وهلل وصفق الكثير من الناس في الدول العربية والكويت لهذا النصر الوهمي متناسين ومتجاهلين حزن لبنان على آلاف الضحايا والقتلى من الأطفال والنساء والعجائز والخراب والدمار الذي خلفته الحرب! وانتصر حزب «النصر الإلهي» مرة أخرى في غزوة مايو الفائت، حين وجه الحزب السلاح إلى صدور اللبنانيين. وتركت هذه العملية التي أحرقت بيروت وحاصرتها وروعت الآمنين فيها أثرا عميقا في نفوس اللبنانيين الذين أخذوا يتساءلون حينها بذهول: «هل ترون إسرائيليين هنا؟» و«هل ضلوا طريقهم إلى تل أبيب؟»، «كيف سنصدق مجددا أن سلاحهم سيحمينا؟». ولم تكف الحزب كل هذه «الانتصارات» الساحقة بل تمادى بها حين أسقط في الاسبوع الفائت مروحية تابعة للجيش اللبناني الذي حلق في إقليم تابع «لدولة السلاح» دون استئذان أو تنسيق بين «الدولتين»! نعم... انتصر الحزب الميليشاوي وسقطت الدولة لتصبح دويلات حين اهتزت هيبتها وتزعزع أمنها وفتحت الأبواب على مصراعيها للمتعصبين وحلفاء «القاعدة» و«فتح الاسلام» وغيرهم ليجعلوها ساحة خصبة لصراعاتهم، وعند تغييب الدولة تسيطر شريعة الغاب. وكما هي الحال مع أي شيء آخر أفسدت السياسة الكثير من أهداف رحلتنا، فقد نسينا أن نشبع نظرنا من جمال لبنان، الوجه الحقيقي له، فما دخلت السياسة في أمر روحاني إلا أفسدته. وقبيل مغادرتنا أهدتني صديقتي اللبنانية كتابا لجبران خليل جبران كتب في إحدى صفحاته: «لكم لبنانكم ولي لبناني... لكم لبنانكم ومعضلاته، ولي لبناني وجماله... لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام، أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء». وعلى الرغم من كل هذه المعضلات، سيعيش لبنان وستشدو فيروز أحلى أغانيها للعصافير والأرز والجبل وستصدح بأعلى صوتها «جبلك حق والحق ما بيموت ياوطني».