الوزير ومعاركه

نشر في 04-07-2008
آخر تحديث 04-07-2008 | 00:00
 محمد سليمان وزير الثقافة الفنان فاروق حسني هو أشهر الوزراء المصريين؛ أولاً، لأنه أقدمهم... ويحتل المركز الثاني بعد الرئيس مبارك في الصمود والتشبث بمكانه ومكانته منذ تولى منصبه عام 1987. وثانياً، بسبب الهجوم شبه الدائم عليه منذ اختياره وزيراً للثقافة وحتى الآن، وبسبب كثرة الاستجوابات التي واجهها في مجلس الشعب. وثالثاً، بسبب العبارات والتصريحات التي يقذف بها لكي يورط نفسه والنظام معه أحياناً.

فقبل أعوام أثار غضب الحركة الثقافية المصرية بتياراتها كلها بتصريحه الشهير عن «الحظيرة» التي نجح في حبس المثقفين فيها، وكان يقصد الهيمنة عليهم وشراء ولائهم بالمنح والمناصب والجوائز.

وفي العام الماضي أعلن أنه ضد ارتداء الحجاب فاستفز أغلبية المصريين، وواجه حملة صحافية وإعلامية أجبرته على التراجع والالتفاف حول تصريحه والاعتذار.

وفي الشهر الماضي سأله أحد النواب عن الروايات الاسرائيلية الموجودة في مكتبة الإسكندرية، فأجاب من دون تردد أو تفكير: «سأحرق أي كتاب إسرائيلي إذا وجدته في أي مكتبة من مكتبات وزارة الثقافة»، وراح يزهو بأن وزارته لم تتورط في التطبيع الثقافي منذ تولى منصبه، ونسي أن مكتبة الإسكندرية لا تتبع وزارة الثقافة ولا سلطان له عليها، لكن تصريحه عن حرق الكتب والتطبيع فتح أبواب الجحيم وأجّج عليه ثورة في الداخل والخارج، خصوصاً أنه مرشح لشغل منصب أمين عام «اليونسكو».

ويبدو أن الوزير كان قد نسي أيضاً ذلك الترشيح حين أدلى بتصريحه الناري، وكان عليه أن يواجه بالإضافة إلى هجوم الداخل حملة صحافية إسرائيلية شرسة اتهمته بمعاداة السامية، وعارضت ترشيحه لرئاسة «اليونسكو»، وكعادته اضطر إلى التراجع والاعتذار والسعي إلى كسب الإسرائيليين واسترضائهم، معلناً أنه كان يقصد حرقاً مجازياً... وأنه مستعد لزيارة إسرائيل، في حوار أجرته معه صحيفة «يديعوت أحرونوت» قال فيه: «إنه مستعد لزيارة إسرائيل بشرط التحضير الجيد لمثل هذه الزيارة بتفاصيلها كلها بالنظر إلى الاعتراضات التي ستثيرها في مصر»، ووعد الإسرائيليين في الحوار نفسه بالعمل على دعم سياسات التطبيع بين مصر والعالم العربي وإسرائيل بعد فوزه بمنصب أمين عام «اليونسكو»، قائلاً: «عندما أكون أميناً عاماً لليونسكو سأكون أميناً عاماً للجميع وستكون أمامي إمكانية لوضع مضمون للعلاقات بين مصر والعالم العربي وإسرائيل، وكل ما لم أنجح في عمله وأنا وزير للثقافة سأفعله في اليونسكو تحت عنوان مصالحة».

والرجل بهذا التصريح ينقلب تماماً على نفسه ومواقفه السابقة من التطبيع، بعد أن أدرك أن حصوله على الوظيفة المرموقة لن يتم إلا عبر البوابة الإسرائيلية، وبعد حصوله على شهادة بحسن السير والسلوك من إسرائيل، وهذا الانقلاب أثار عليه المثقفين المصريين الذين اتهموه بالتخاذل والانتهازية، فدعاه بعضهم إلى التشبث بمواقفه وكرامته والاعتذار عن الترشيح للمنصب الكبير، وقارن بعضهم الآخر موقفه المتخاذل بموقف الكاتب البرتغالي الشهير جوزيه ساراماجو الذي زار الأرض المحتلة مع بعض زملائه الأدباء، ووصف المخيمات الفلسطينية بالمحارق وتشبث برأيه أمام محاولات الابتزاز من الصحافة الإسرائيلية والدولية، مؤكداً أنه فكر جيداً في تصريحه، وأنه يعنيه تماماً.

ونسي الجميع الفرق بين ساراماجو المبدع الحر المعتز بنفسه وتجربته، وهو الذي بدأ رحلته الحياتية والإبداعية من إحدى قرى البرتغال صانعاً للأقفال، والوزير القابع في «حظيرة» المؤسسة السياسية التي رشحته للمنصب، ورسمت له خرائط حركته. وقد كشف الوزير بإحدى عباراته هذا الوضع عندما ردّ على هجوم أحد أعضاء مجلس الشعب عليه قائلاً: «إذا كنتم مش عاوزين مصر تفوز بهذا المنصب قولوا»... ومصر هنا لا تعني سوى النظام الذي يتحدث الوزير باسمه، وينقلب أيضاً باسمه على نفسه وقناعاته، وهو النظام الذي أدمن تقديم التنازلات للجانب الإسرائيلي بلا مقابل... وقضية الغاز المصدَّر لإسرائيل بأقل من ربع سعره العالمي مازالت مثارة.

لم تستفد مصر والعرب من شغل د. بطرس غالي لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة من قبل، ولن يستفيدا من منصب الأمين لليونسكو، إذا فاز به الوزير فاروق حسني. فالقوى الدولية ليست عمياء أو بلهاء، وتلك المناصب لها أطرها وضوابطها ومهامها المحددة، لكن العجز عن مواجهة مشاكل الداخل وانهياراته يدفع نظامنا، الذي أنهكته الشيخوخة وعطلت بعض حواسه، إلى البحث عن انتصار صغير ما في الخارج، كي يضخمه ويضيفه إلى حسناته ومنجزاته.

* كاتب وشاعر مصري

back to top