أين كان هذا الحماس، الذي يظهره اليوم بعض النواب والشخصيات العامة والقوى السياسية لدفع الحكومة على التدخل من أجل إنقاذ الشركات الكبيرة من ورطتها المالية على حساب المال العام والتهديد بمساءلتها ما لم تسرع لخدمة هذه الشركات، عندما أثيرت قضية القروض الشخصية للمواطنين؟
أليس المنطق الذي كان سائدا في خضم مناقشة أزمة القروض وملاحقة المواطنين المدينين قضائياً واصطفافهم أمام أبواب بيت الزكاة، أن التدخل الحكومي في حل تلك المشكلة يعتبر تشجيعاً على الدلع والنهم الاستهلاكي؟ وكان الجواب الجاهز لمعاناة الآلاف من العوائل الكويتية يختصر بالقول إن أحداً لم يضرب على أيديهم للاقتراض؟!ألم يقل في ذلك الوقت إن حجم تلك المديونيات التي تبلغ أربعة مليارات دينار وتشمل حوالي ربع مليون مواطن وأسرهم، سيقصم ظهر الاحتياطي العام للدولة رغم أن سعر برميل النفط قد تجاوز المئة والخمسين دولاراً في ذلك الوقت؟!ألم يقل إن معظم المقترضين قد استدان الملايين من الدنانير لشراء السيارات الفارهة ولقضاء إجازات الصيف في المنتجعات السياحية حول العالم ولبناء بيوت سوبر ديلوكس وغير ذلك من عبارات التهكم والسخرية رغم أن كثيرين منهم قد اقترضوا لأغراض العلاج والتعليم والزواج؟!ألا يحق اليوم لمناصري قضية القروض أن يردوا الصاع صاعين على الشركات، التي تهدد بشل الاقتصاد الوطني من خلال إعلان إفلاسها، ويسألوا المدافعين عنهم بشراسة: من ضرب على أيدي هذه الشركات لاقتراض أكثر من عشرين مليار دينار للمضاربة بها في صفقات وهمية في البورصة؟ أليس المنطق الاقتصادي يفرض قاعدة الربح والخسارة في المعاملات التجارية من خلال العرض والطلب؟ وأن كلفة التدخل الحكومي قد يكبد الدولة المليارات من الأموال العامة في وقت هبط فيه سعر النفط إلى ثلاثين دولاراً؟ وأن المتضررين من انهيار البورصة ومن الشركات لا يمثلون سوى 5% من مجموع الكويتيين؟ وهل يقبل هؤلاء فكرة صندوق آخر للشركات المتعثرة بنفس رأس مال صندوق المعسرين وشروطه وآلية صرف أمواله لإنقاذ تلك الشركات المعسرة؟!إن سرد مثل هذا النوع من الجدل أو الشماتة المتبادلة في الحقيقة يرمي إلى بيان الفرز الطبيعي لتركيبة المجتمع الكويتي، والتي تحدد الأنماط المختلفة والمتباينة من الأولويات والاهتمامات التي يوليها أعضاء مجلس الأمة تحديداً تجاه المشاكل والهموم التي تهم القطاعات الشعبية التي يمثلونها رغم كونهم يمثلون الأمة برمتها... ويجدون لزاماً الدفاع عنها ونقل صوتها بل والاستماتة من أجلها في حالات الطوارئ القصوى، وبالمنطق النسبي، فإن مَن يدافع عن أي من هذه الشرائح في أزمتها يلبس شعار الوطنية والأمانة والدفاع عن المصالح العامة، ومن يقف ضد ذلك أيضاً يزعم بحمل راية المحافظة على المال العام ومحبة الكويت ويتهم الآخرين بعكس ذلك تماماً.ولهذا فمن غير المستغرب أن نرى وخلال أشهر قليلة فقط كيف تتبدل المواقع ويعاد توزيع الأدوار ويتحول المحافظ على المال العام إلى أداة لخدمة المصالح الضيقة والعكس صحيح، ولهذا أيضاً ليس من الحصافة السياسية ورقي لغة الخطاب أن تتبادل التهم من جهة وتحتكر أوسمة الوطنية من جهة أخرى في كل مرة تبرز إلى السطح المشاكل الخلافية التي تعكس التباين والتنوع الطبقي في مجتمعنا وبكل الأشكال والأنواع.ولعل الأزمة المالية الراهنة وتراكماتها ونتائجها المجهولة والمخيفة تستدعي من الجميع تغليب الروح الجماعية والتفكير المشترك من قبل الفرقاء لإيجاد حلول منطقية وعادلة تصب أولاً في حماية الاقتصاد الوطني وتضمن مصالح الدولة وأموالها وتعتبر المواطن الفقير والغني شركاء في الوطن الواحد بذات الحقوق والواجبات بدلاً من الدخول في العنتريات واختلاق البطولات من قبل كل منّا تجاه مَن يحب ويهتم بمصالحه أكثر من الآخرين.
مقالات
تسييس الاقتصاد!
27-01-2009