الناخب الإسرائيلي اختار الحرب
من النادر أن تجمع أجهزة الإعلام الغربية على تحليل موضوع ما مثلما أجمعت على القول، وبأصوات مختلفة، على أن نتيجة الانتخابات الإسرائيلية وفوز اليمين المتطرف يقود إلى مزيد من التعقيدات في الشرق الأوسط، ويقضي على فرص السلام وربما يشعل حرباً جديدة. فالانتخابات الإسرائيلية أظهرت، بما لا يقبل الشك أو النقاش، أن الشارع الإسرائيلي مختلف على أسلوب التعامل مع الفلسطينيين ومع العرب، لكنه متفق على استخدام القسوة المفرطة في المرحلة القادمة، حتى لو أدى ذلك إلى فتح أبواب الجحيم.وفي المحصلة النهائية فإن التحليل الإعلامي يتفق على نقطة بارزة، وهي أن «كرة الحرب والسلام» تقترب بشكل مثير من الشباك الأميركية. فهل في مقدور إدارة أوباما أن تتعامل مع هذا الوضع وبالسرعة المطلوبة، وبالتالي تعيد إسرائيل إلى «بيت الطاعة»؟ الجواب لدى واشنطن وحدها دون غيرها من العواصم العالمية.
«إن نتيجة الانتخابات هي الأسوأ في تاريخ إسرائيل لأنها تضع إدارة أوباما في موقف حرج قد تضطر معها إلى تسريع خطواتها في استعادة جو السلام». (مجلة «التايم» الأميركية في عددها الأخير الصادر في 11 فبراير الحالي) بينما ذكرت بقية أجهزة الإعلام الغربية على اختلافها أن طبول الحرب بدأت تقرع في المنطقة.من المفيد جداً مراقبة ما يجري على الساحة السياسية الإسرائيلية في الأسابيع القادمة، فبالرغم من صعوبة حسم من يشكل الحكومة الجديدة: نتنياهو أم ليفني، فإن أصواتاً خافتة بدأت تصدر عن المؤسسة الإسرائيلية، خصوصاً المؤسسة العسكرية، تدعو إلى تشكيل حكومة اتحاد وطني تضم كل الأحزاب، بما فيها حزب ليبرمان المكروه تقريباً من الجميع. وإذا حصل ذلك فإنه مؤشر مهم مضاف إلى احتمالات الحرب، فإسرائيل درجت منذ إنشائها على تناسي خلافات أحزابها والتطاحن على المكاسب السياسية والمادية عندما يظهر شبح الحرب. حصل ذلك في حرب السويس 1956 وفي حرب الأيام الستة 1967 وفي حرب يوم الغفران 1973، وهو تقليد تفرضه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي لها الكلمة الفصل في لعبة الحرب والسلم، وفي كل ما يتعلق بالشؤون الأمنية. هذا يعني أن استمرار الخلافات حول تشكيل الحكومة «مؤشر جيد» للذين مازالوا يأملون في سلام عادل وشامل مع الدولة اليهودية، لأنه يبعد شبح الحرب، ويعطي الولايات المتحدة مزيداً من الوقت لإقناع إسرائيل بالعودة إلى بيت طاعتها.* * *قبيل توجهها إلى صندوق الاقتراع للإدلاء بصوتها قالت زعيمة حزب كاديما الإسرائيلي: «إن الجو مليء بالحقد وبالكراهية (تعني جو إسرائيل)، وهو شيء جديد في إسرائيل». ثم تابعت في تصريح لها لأحد أجهزة الإعلام التابعة للقيادة العسكرية: «إنه حقد أعمى وكره مسموم يجتاح إسرائيل كمرض الطاعون». لقد أصابت ليفني كبد الحقيقة في إعطاء الوصف الواقعي للمجتمع الإسرائيلي. فالانتخابات الأخيرة أعطت مؤشرات مهمة من التشرذم السام الذي بات مسيطراً على المجتمع المدني، حيث لم ينجُ منه المجتمع العسكري، خصوصاً الجنود والضباط الذين ينتمون إلى الجيل الجديد، والذين صنعوا «معجزة» صعود حزب «إسرائيل بيتنا» إلى المرتبة الثالثة في الكنيست، وأعطوا مفتاح تشكيل الحكومة الجديدة إلى ليبرمان الذي مازال ينادي بأعلى صوته بضرورة تهجير عرب فلسطين 1948 الذين باتوا يشكلون عشرين في المئة من تعداد الإسرائيليين، وذلك تمهيداً لإقامة دولة يهودية صافية العقيدة والأصل والدم.ليفني أظهرت استغراباً وحزناً على وجود هذه الكمية من سموم الحقد في الجسم المدني الإسرائيلي، وهذا يدل على ضيق أفقها في فهم سيكولوجية شعبها، فالسم الذي طبخته إسرائيل، ومازالت، لتصديره إلى العالم العربي، كان من الطبيعي أن يرتد إلى دولتها. ألم يقل القدماء إن طابخ السمّ آكله، فأهلاً وسهلاً بها وبدولتها التي كسبت عن جدارة عضوية النادي العربي في البغض والشرذمة والفوضى وعدم الرؤية.إن انضمام المجتمع الإسرائيلي إلى نادي الحقد والبغضاء يعني أن المنطقة كلها لم تعد بعيدة عن حافة الجنون المطلق، فإسرائيل في ظل «الحكومة القومية» التي نصّب نتنياهو نفسه رئيساً لها قبل ظهور نتيجة الانتخابات وإعلانها رسمياً، قد عادت إلى أحلامها التلمودية، ووضعت نفسها مرة جديدة في مسار تحقيق نبوءات العهد القديم. إن نتنياهو، المعروف بإغراق نفسه في الأحلام الوردية، لم تنفع معه السنين العشر التي قضاها خارج الحكم في استعادة جزء من العقلانية والواقعية، ففي التسعينيات عبّر نتنياهو عن عدم رضاه على موقف اتخذه الرئيس الأميركي الأسبق كلينتون، فسافر على أول طائرة من تل أبيب إلى واشنطن ليدلي بتصريح جنوني في قلب العاصمة الأميركية: سأحرق واشنطن إذا لم تصحح موقفها الأخير من إسرائيل، وكانت النتيجة غيابه عن رئاسة الحكومة الإسرائيلية لمدة عشر سنوات، وإشعال النار في جسور اتصاله مع واشنطن إلى الأمس القريب عندما عادت نوبات الجنون لتسيطر على الناخب الإسرائيلي الذي رفعه مرة ثانية إلى مرتبة القيادة الثانية، بالرغم من الضغط الخفي الذي مارسته واشنطن على «ناخبيها» الإسرائيليين لإبعاده لمصلحة ليفني، ومازال نتنياهو على عناده الجنوني، حيث نُقل عنه قوله في تصوير نتيجة الانتخابات: «لقد ربحت ليفني ملكية الشقة (يعني رئاسة الحكومة) لكنني ربحت في المقابل المفتاح». هذا القول يعطي صورة كاملة ومختصرة عن الواقع الحالي في إسرائيل ما بعد الانتخابات.ما يُراد قوله في هذا المجال أن واشنطن تستطيع أن تمارس الضغط على إسرائيل عندما تريد، فالذي يتمكن من الضغط على الناخب الإسرائيلي، بإمكانه أن يفعل الشيء ذاته وبسهولة أكثر على صانعي القرار، غير أن واشنطن، على ما يبدو، لم تقرر أن تفعل ذلك، فهي ترى أن الفوضى غير المسيطر عليها في العالم العربي التي انتقلت إلى إسرائيل تستدعي الإبقاء على «قوة الإقناع» الإسرائيلية لاستخدامها في الوقت المناسب، لكن المشكلة التي ستواجهها قريباً تكمن في كمية اللاواقعية التي سوف تمتاز بها إدارة «الحكومة القومية» في حال تشكيلها في تل أبيب، والتي من شأنها أن تزيد المشاكل في وجه واشنطن، هذا إذا لم نقل إشعال حرب إقليمية جديدة وما يمكن أن يتبعها من حرب تتعدى هذا المستوى الجغرافي. فهل تتمكن واشنطن من استيعاب «جنون الأحلام الوردية» وبالتالي تدجين الوحش الأعمى الذي أطلق عليه نتنياهو اسم «الحكومة القومية»؟ هذا هو الاختبار بل الاختيار الصعب لإدارة أوباما في القريب المنظور.إن نتيجة الانتخابات الإسرائيلية يجب أن تكون عنصر يقظة لا عنصراً يزيد العرب ضعفاً على ضعف، فهم أقوياء في الحقيقة وفي الواقع ولا ينقصهم سوى اتخاذ القرار بممارسة هذه القوة، وأول بنود هذا القرار هو طي صفحة الماضي الخلافي الأسود، والتخلي عن الاعتماد على الغير في خوض حروبهم ومعاركهم السياسية ومواجهة الواقع، فمهما هربوا أو هُرِّبوا من هذه المواجهة، فإن هذا الواقع سوف يلاحقهم إلى آخر الزمان، وإذا كان «ماوتسي تونغ»، قائد أطول مسيرة ثورية صينية في العالم، قد قال: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فإن الرحلة العربية إلى التوافق ووضع استراتيجية وحدة أهداف مبنية على الحقائق وليس على الأوهام مسافتها مئة ميل، أو أقل بكثير، بمقياس الزمن الحاضر، فمن سيخطو هذه الخطوة وبالتالي يعلق الجرس؟!* كاتب لبناني