صلاح جاهين

نشر في 05-09-2008
آخر تحديث 05-09-2008 | 00:00
 محمد سليمان وحده كان صلاح جاهين حركة فنية متوهجة وأكاديمية فنون تجوب الشوارع لتستنهض المواهب والطاقات والأحلام والمستقبل بالقصائد والاناشيد والأغاني والرسوم والتمثيل أحيانا. وقد استطاع الشاعر في سنوات قليلة لا تتجاوز العشر أن يضع قصيدة العامية في صدر المشهد الشعري وأن يصبح واحدا من روادها الكبار ورساما قديرا في الوقت نفسه، وكبيرا لمنشدي مصر وثورة يوليو.

«على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء

أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء

بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب

وبحبها وهي مرمية جريحة حرب

بحبها بعنف.. وبرقة وعلى استحياء

وأكرها وألعن ابوها بعشق زي الداء

واسيبها وأطفش في درب وتبقى هي في درب

وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب»

في شبابه توهجت موهبة صلاح جاهين فصدرت له بين عامي (1955-1966) خمسة دواوين هي «كلمة سلام - موال عشان القنال - عن القمر والطين- رباعيات- قصاقيص ورق» ثم انحسر ذلك التوهج وطال صمت الشاعر فصدر ديوانه السادس «أنغام سبتمبرية» عام 1984 وقد كانت صدمة يونيو 1967 التي زلزلت الشاعر ودفعت به إلى آبار الاحباط والاكتئاب وراء هذا الصمت... وفي مقدمته لديوانه الأخير يقول الشاعر: «اسم أنغام سبتمبرية اسم كبقية الاسماء.. ولكنني اخترته لسبب أو لآخر ربما لأن عواطفي تعودت أن تجيش في سبتمبر من كل عام منذ أن كان الفيضان يأتي في هذا الشهر محملا بعطر يملؤني بنشوة عجيبة وربما لأن عبدالناصر مات كمدا في سبتمبر» والاسم يشير في الواقع إلى الصراع بين الحياة الفيضان النشوة والموت وبدايات الخريف والى الذات المسكونة بالشيء ونقيضه فالحنين إلى الماضي -الشباب- صعود المشروع القومي- إنجازات يوليو تهيمن على قصيدة أنغام سبتمبرية.

«خلي المكنجي يرجع المشهد

عايز أشوف نفسي زمان وأنا شب

داخل في رهط الثورة متنمرد

ومش عاجبني لا ملك ولا أب

قال المكنجي: رجوع مفيش

عيش طول ما فيك أنفاس تعيش

وبص شوف

ركن الشباب صفوف صفوف

مفيش وقوف»

وفي المقابل سنجد رفض ذلك الماضي يطل علينا من قصائد أخرى والذات وهي تحاول تبرئة نفسها من اخطاء ذلك الماضي وسلبياته التي أدت إلى صدمة يونيو وانهيار العالم الذي شيدته الأناشيد والأغاني وسنجد الشاعر يفتتح قصيدته الطويلة «على اسم مصر» بهذه السطور:

«النخل في العالي.. والنيل ماشي طوالي

معكوسة فيه الصور.. مقلوبة وأنا مالي

يااولاد أنا في حالي

زي النقش في العواميد

زي الهلال اللي فوق مدنه بنوها عبيد

وزي باقي العبيد باجري على عيالي

باجري وخطوي وئيد من تقل أحمالي

محنية قامتي.. وهامتي كأن فيها حديد»

بالاضافة إلى دوره البارز في تطوير الأغنية وتحديثها نجح صلاح جاهين في شد القصيدة من عوالم الزجل والموال ونجح أيضا في تحريرها من الثرثرة والتداعي العشوائي، فقد كان كما يقول عن نفسه «شاعر شاطر» أي ذكي يعرف أن ما لا يفيد في الشعر يضر، وأن الصورة إذا لم تضف تضعف، لذلك كان التركيز والتكثيف من أهم ملامح نصوصه خصوصا «رباعياته»:

«نوح راح لحاله والطوفان استمر

مركبنا تايهه لسه مش لاقية بر

آه من الطوفان.. وآهين يا بر الأمان

إزاي تبان.. والدنيا غرقانه شر

عجبي»

قبل هزيمة يونيو بشهور التقيت بصلاح جاهين في احدى الامسيات الثقافية والشعرية التي كانت تنظمها كلية الصيدلة. في تلك الأمسية بهرني صلاح جاهين بشعره وحديثه وحيويته وشدني من عوالم الزجل الى القصيدة العامية الحديثة، وكان أول شاعر حقيقي يشجعني ويعلق على بداياتي الشعرية ثم التقيت به مرات بعد الهزيمة كان قد صار شخصا آخر صامتا وحزينا وعجوزا وهو شاب دون الاربعين «أنا العجوز الشايب الحزين - أنا العجوز من قبل سن أربعين» وأظنه كان يرى نفسه مسؤولا بشكل أو بآخر عن الهزيمة باعتباره أحد منشدي الثورة الذين روجوا لها ولعبدالناصر وخدعوا الناس بالأغاني والأناشيد وبصورة وردية للمستقبل لكنه ظل رغم ذلك عاشقا لعبدالناصر مسكونا بالحنين إلى عصره وراياته.

«دلوقت نقدر نفحص الصورة

انظر تلاقي الراية منشورة

متمزعة لكن مازالت فوق

بتصارع الريح اللي مسعورة

وانظر تلاقي جمال

رافعها باستبسال

ونزيف عرق سيال على القوره»

تأمل الوجود الانساني والانشغال به هو لب تجربة صلاح جاهين الابداعية فقد كان واحدا من شعرائنا المفكرين الذين لا يحتفون في شعرهم بالثرثرة والتداعي والطرطشة العاطفية، وكان في الوقت نفسه مسكونا بالتراث والامثال والحكم الشعبية، رغم نشأته في المدينة، وكان يعرف أن الشاعر الحقيقي عليه أن يكد لكي يصفي تجربته وقصائده من الشوائب والفوائض اللغوية التي تشتت القارئ وتوهن البناء، لذلك ظلت قصيدته حية ومتوهجة وقادرة على مد ظلاله على معظم شعراء الأجيال الآخرى.

* كاتب وشاعر مصري

back to top