في شرط بناء دولة الحداثة والمواطنة

نشر في 17-05-2008
آخر تحديث 17-05-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ

إن مجتمعا بلا دولة، ودولة بلا مواطنة مشتركة، ومواطنة بلا هويّة وطنيّة؛ لا يمكن أن تؤصل لبناء ديمقراطيّة الدولة الوطنيّة. وبالطبع لا يمكن أن يجري التأصيل لبناء دولة قوميّة، لأن ديمقراطيّة الدولة الوطنيّة هي الأساس الجنيني الذي لا يمكن أن ينمو أو تقوم أعمدته من دون الاستناد إلى الهويّة المشتركة.

في العديد من بلدان العالم، باتت «الخلافات الانتخابية» على ما يبدو، واحدة من سلوكيّات قد تعود إلى ممارسة ما قبل «الدولتيّة»، وقد ترقى إلى وجود خلل في النظام السياسي؛ ومن ثمّ الانتخابي، ما يفرّغ العمليّة الانتخابية من جوهرها الحقيقي، ويساهم في ابتعادها وإبعادها عن مجال العمل الديمقراطي، وحيّزات النظام الديمقراطي المنشود، علاوة على كل ذلك فإن ما يظهر من «خلافات انتخابية» بعد إنجاز عملية الاقتراع، يبدو أنها باتت مظهرا مرافقا للعمليّة الانتخابية، من جرّاء قوانين الانتخاب من جهة، وآليات الانتخاب من جهة أخرى، ومن جرّاء ضعف تقاليد ديمقراطيّة في بنى الدولة والمجتمع في العديد من بلدان؛ يفترض أنّها في تجاربها وخبراتها المكتسبة أعرق من بلدان مازالت تحبو؛ رغم مسيرتها وتجاربها الانتخابية العريقة.

في تلك البلدان وفي غيرها، لا يبدو أنّ الدولة في سبيلها إلى أن تنجح في إنجاز مهمّتها الأشدّ إلحاحا؛ إذا ما أرادت أن تلبس لبوس الدولة، ألا وهي تحقيقها لمسألة المواطنة المشتركة، بما هي المصهر الوطني الذي ينجح في إعادة دمج المجموعات القبليّة والعشائريّة أو الطائفيّة والعرقيّة في الإطار الوطني، إطار الوطنيّة الجامعة؛ لدولة، إحدى سماتها الأبرز؛ انتظامها واحتكامها للدستور والقانون وللعقد الاجتماعي والسياسي، وإلاّ فإنّ مسببات الخراب التي تشكّل بنتائجها آليّة الخروج من حضن الدولة إلى احتضان السلطة، مع ما يرتبّه ذلك من استطراد المفاهيم، بحيث تنحاز قوى في المجتمع السياسي والأهلي لفرضها أمرا واقعا وبالقوّة العارية أو الانقلابيّة، بما يعكس شكلا لجوهر كان ينبغي أن يكون ديمقراطيّا، من جرّاء عمليّة انتخابيّة كانت وتكون بنتائجها أكثر من ملتبسة، أو هي في التباسها تنحو، وقد نحت؛ نحو خلق مقدّمات أو مقوّمات تنازع أهلي، قد تكون الحرب الأهليّة إحداها، إن لم يجر وضع حدّ لهذه أو تلك من المقدمات والمقوّمات؛ الباقيّة إرثا تقليديّا من تراث الماضي التكويني لمجموعات قبليّة أو عرقيّة أو طائفيّة، بدأت تتكوّن على هيئة شعب أو شعوب؛ لم تعرف الدولة أو الأمّة نطاقا لاجتماعها بعد.

من هنا نشوء الحاجة الأكثر إلحاحا لوحدة كيانات شعوبنا انطلاقا من مكوّناتها الأصغر، على أن مكوّنات الشعب الواحد أمست أكثر احتياجا إلى ما يوحّدها في وطنيّة جامعة، حتّى الدولة القطريّة أو الوطنيّة أمست في وضع يؤكّد يوما بعد يوم؛ ضرورة العمل لتجسيد وحدتها الوطنيّة الجامعة، الوحدة التي لا تنفصم عراها أمام تدفّقات الأفكار الأيديولوجيّة؛ الدينية منها وغير الدّينية؛ الساعية إلى فصم عرى المجتمع الوطني، والمجتمع الأهلي، بما بات يعنيه من تقسيم للدولة الوطنيّة إلى فئويّات متعادية، متنافسة، متعارضة، متناحرة، متناقضة... إلخ من تمظهرات إنتاج أو تسييد أشكال توليديّة من فصامات وانفصامات المجتمع الأهلي المتواجه مع ذاته.

لذا فإن غياب مجتمع مدني فاعل، ومتفاعل مع مكوّناته الوطنيّة في إطار الدولة الوطنيّة، أعاق ويعوق نشوء دولة حديثة، كما أن معوّقات نشوء الدولة الحديثة هي نفسها معوّقات عدم نشوء مجتمع مدني حديث. هذه العلاقة الجدليّة لشرط وجود الدولة /الديمقراطيّة/المجتمع المدني، لا يمكن فصمها قي سياق مهمة العمل على توحيد مكوّنات الدولة الوطنيّة، وصولا إلى بناء الدولة الحديثة، وطنيّة أطلق عليها و/أو قوميّة، ذلك أن نموذج بناء الدولة الوطنيّة بات يشكّل النموذج الأمثل لبناء نموذج الدولة القوميّة التي لا يمكن نشدانها كنموذج جاهز، دون المرور في طور الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة المولّدة من داخلها لديناميّات إنتاج أو إطلاق مجتمع مدني، يساهم مساهمته الفعّالة في توحيد مكوّنات مجتمع أهلي وتطوير حيّزاته الخاصة باتجاه إدماجها في الحيّز العام للمجتمع المدني والدولة.

لقد حوّلت السلطة القهريّة والأنظمة السلطانيّة والاستبداديّة وبيروقراطيات الأجهزة الأمنية والعسكريّة الحاكمة، السياسة في المجتمعات التي هيمنت أو تهيمن عليها، إلى مرتع لها ولأجهزتها، بعد إطاحتها والاستيلاء عليها وسلبها صبغتها الاجتماعيّة والمجتمعيّة، ليتمّ تحويلها إلى سلطة بصيغة المفرد الفرد؛ فردانيّة الزعيم أو الفئة الطبقيّة، وفردانيّة النخبة أو النخب التي عاندت مواقعها وغادرتها نحو الدائرة الأشد حلقيّة ونرجسيّة وأنانيّة وزبائنية، في خدمة سلطة القهر والغلبة السياسيّة والدينيّة؛ سواء بسواء، فالسلطة هنا هي المشترك الأوحد الذي أمست تتّجه إليه جهود العديد من السياسيّين والمثقّفين أو المشتغلين في الحقل الثقافي، وذلك حين يجرى إلحاق الثقافة، ليس بالسياسة بمفهومها البدائي، إنّما بالسلطة، التي عملت على إطاحة السياسة واستولت عليها، وعمدت إلى إقصاء كلّ ما عداها, في عمليّة احتكار لها، واعتقالها واستمرار حشرها في الفضاء العام للسلطة القهريّة.

في أجواء كهذه، نمت وتنمو فيروسات تحويل الهويّة الوطنيّة الجامعة، هويّة المواطنة الواحدة إلى هويّات متذررة، سياسويّة وطائفيّة، وذلك على حساب وجود الدولة؛ الضامن الوحيد لوحدة الهويّة الوطنيّة، والفاعل الأكثر تأثيرا في حماية المجتمع والثقافة من صرعات واصطراعات التبديد، وحماية المجتمعين الأهلي والمدني وسلمهما واستقرارهما، وإبعاد أشباح التحاصص والتقاسم الفئوي وتقسيمهما؛ مرة باسم أسطورة التعايش، ومرات باسم التوافقات الفوقيّة، البعيدة كلّ البعد عن ثقافة الديمقراطيّة، وديمقراطيّة الثّقافة التي تشمل بعقدها حتى الدولة نفسها، عبر التزامها بالدستور والقانون والقيم الأخلاقيّة والثقافيّة المؤسّسة لاجتماع المواطنين في إطارها الموحّد لمكوّناتها كافة، وإلاّ فإن مجتمعا بلا دولة، ودولة بلا مواطنة مشتركة، ومواطنة بلا هويّة وطنيّة؛ لا يمكن أن تؤصل لبناء ديمقراطيّة الدولة الوطنيّة. وبالطبع لا يمكن أن يجري التأصيل بالتالي لبناء دولة قوميّة، ذلك أن ديمقراطيّة الدولة الوطنيّة هي الأساس الجنيني الذي لا يمكن أن ينمو أو تقوم أعمدته من دون الاستناد إلى نطفة الدولة/الثقافة/ الهويّة المشتركة.

هنا تنشأ بل تتأسس ماهيّة الدولة الوطنيّة المؤسسة لطبيعة الهويّة الجماعيّة في انتمائها الموحّد للدولة الوطنيّة، قبل انتقالها إلى الطور الأخير من تحوّلها إلى دولة الحداثة القوميّة الديمقراطيّة الموحّدة والموحدة عمليّا، بمعنى اشتغالها في نطاقات وحدة ديمقراطيّة ووحدة الهويّة كهويّة وطنيّة وقوميّة جامعة في إطار الدولة/الأمّة، وذلك كخيار نهائي وأخير لصقل بناء دولتي جمعي، ينتصب شامخا بديمقراطيّته أمام بيسماركيّة الهلام القومي، ويقوم سدّا حاجزا ومانعا أمام أيديولوجيّات التفتيت والتذرير الدينويّة- السياسويّة الممسكة بخناق مجتمعاتنا وبعض سلطاتنا، والتأثير فيها، إلى حدّ صبغها بصبغة الهويّات الجزئيّة العابرة للوطنيّات القائمة، وتلك اللاثقافيّة؛ المؤسسة أساطيرها الخاصّة على قاعدة تلك الأساطير القديمة التي طوّرت خرافات يستحيل التعامل أو التعاطي معها، ولو بتلك العقلانيّة البدائيّة التي كفّت عن طرائق اشتغالها في إطار عقلاني بالمطلق، ذلك أن العقلانيّة الحداثيّة اليوم هي العقلانيّة النقدية لا غير. على أن الحداثة بحدّ ذاتها ليست ترياقا أو حلاّ استثنائيّا، يمكن الانحياز إليه فجأة، واعتباره الحلّ الأمثل لمشكلات واقعنا، فمسيرة الحداثة - كما الدولة - المنشودة في بلادنا، إنّما هي مجموعة من سيرورات اجتماعيّة وتاريخيّة، تحمل من التحوّلات ما لا يحصى وعلى الصعد كافة، بما أنّ الحداثة ليست عمليّة انقلابية، يمكنها أن تحلّ أو تهلّ علينا بين ليلة وضحاها، أو عند الطلب.

* كاتب فلسطيني

back to top