القرصنة... التاريخ والمشكلة والحل (4-5)

نشر في 10-02-2009
آخر تحديث 10-02-2009 | 00:00
 د. عمار علي حسن أدى استفحال ظاهرة القرصنة الصومالية إلى تفكير الدول الكبرى في أمرين: الأول بدأت في تنفيذه بالفعل، ويتعلق بتسيير هذه الدول سفنها الحربية إلى خليج عدن لحماية تجارتها من القراصنة. والثاني يرتبط بالسعي إلى تدويل البحر الأحمر.

وهذا التفكير مرده إلى اعتقاد هذه الدول في أن القراصنة الصوماليين والأرتيريين يشكلون خطرا حقيقيا على مصالح الدول الصناعية الكبرى، بعد أن وصل عددهم إلى ما يربو على 1100 رجل، يستخدمون زوارق سريعة جدا، تنطلق من سفن، ويتسلحون بالرشاشات وقاذفات للقنابل اليدوية، وهناك من يعتقد أن بحوزتهم قاذفات صواريخ، وأنظمة دفاع جوي محمولة على الأكتاف وهم يستعملون أجهزة متطورة تعينهم على التعمق بعيدا في مياه خليج عدن وتحديد أماكن السفن التي ينوون اختطافها.

ومن المتوقع أن يؤدي الخيار الأول إلى محاولة بعض الدول الكبرى إنشاء قواعد عسكرية على أرض عربية، وهي مسألة بدأت تتكشف تدريجيا، فها هي صحيفة «جازيتا رو» الروسية تذكر في السادس عشر من يناير المنصرم أن روسيا شرعت في إجراء مفاوضات مع اليمن لإنشاء قاعدة عسكرية بحرية للأسطول الروسي بجزيرة سوقطرة قبالة السواحل الصومالية بالمحيط الهندي لحماية السفن المدنية الروسية المرابطة في خليج عدن من القراصنة. وقد تلجأ دول كبرى أخرى، غير الولايات المتحدة الأميركية، إلى إبرام اتفاقات مع بعض دول المنطقة لإنشاء قواعد مماثلة.

أما تدويل البحر الأحمر فهناك من يشير إلى أن ضلوع إسرائيل في ظاهرة القرصنة الصومالية، حتى تدخل دول العالم لمحاربة هذه الظاهرة، فيترتب على تدخلها تحويل البحر من بحيرة عربية إلى بحيرة دولية، كجزء من مخطط «الشرق الأوسط الجديد» التي كان الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز قد طرحه في تسعينيات القرن المنصرم. ويستشهد هؤلاء بعدم تعرض القراصنة إلى سفن إسرائيل حتى الآن.

وبعيدا عن هذه الآثار المتوقعة هناك أثر مباشر لا يخفى على أحد، يشكل بالطبع أحد الأهداف الإسرائيلية، ويتمثل في الأضرار التي لحقت بدخل قناة السويس من جراء القرصنة، وجاءت في وقت كانت فيه مصر تبذل جهدا مضنيا في سبيل رفع نسبة التجارة العابرة للقناة إلى 10% من جملة ما يتاجر به وفيه العالم بأسره، بعد أن استقرت هذه النسبة سنوات عدة عند حاجز الـ7%. وقد كانت مصر تسعى إلى تقليص أثر الأزمة المالية العالمية على القناة بتقديم تسهيلات للسفن، نجحت في استعادة 85 في المئة من طلبات أصحابها، لتحافظ على زيادة معدلات العبور في القناة طيلة عام 2008 عن مثيلتها في العام المنصرم بنسبة 21%، لاسيما مع استمرار أعمال التطوير التي تروم السماح بعبور السفن حتى 66 قدما بإجمالي 340 ألف طن، والتي من المقرر أن تكتمل في نهاية سنة 2009، بما جعل التوقعات التي سبقت وقوع هذه الأزمة تشير إلى تحقيق القناة عائدات قياسية قدرها 6.1 مليارات دولار في السنة المالية الحالية وذلك بزيادة 18% عن السنة المالية المنتهية في يونيو 2008، وهي قيمة كان من المؤمل أن تزيد باستمرار مع سعي مصر إلى جذب 64% من أسطول ناقلات النفط العالمي بحمولة كاملة ليمر في القناة، بعد مشروع التوسعة والتعميق هذا.

ولم تكن هذه الآمال مجرد أضغاث أحلام بل كانت مبنية على دراسات وقياسات واقعية، خاصة بعد أن حققت القناة خلال العام المالي الذي انتهى آخر يونيو (حزيران) الماضي 2007 عائدات قياسية سنوية جديدة بلغت 5.113 مليارات دولار، وهي أعلى عائدات تحققها منذ افتتاحها للملاحة عام 1869. إلا أن أحدا لم يكن يحسب حساب هذين العاملين الطارئين، وهما الأزمة المالية العالمية وحركة القرصنة في سواحل الصومال.

وما كادت جهود مصر لتعزيز دخل القناة تؤتي أكلها حتى شهدت المنطقة حركة قرصنة ستؤثر من دون شك عليها، من زوايا دخلها المادي وموقعها الاستراتيجي ودورها التاريخي. فالقرصنة وصلت إلى مستوى غير مسبوق، ما جعل اللجنة العليا المكونة من خبراء هيئة قناة السويس تفكر في تخفيض رسوم العبور، وذلك في ظل وجود اتجاه داخل مجلس إدارة قناة السويس نحو منح بعض النوعيات من السفن، خاصة ناقلات النفط وسفن البضائع تخفيضات جديدة أو تثبيت رسوم المرور لعام 2009 على الأقل، بعد أن كان هناك تفكير في زيادتها.

وبالطبع فإن هذه الإجراءات ما كان يمكن التفكير فيها لو سارت الأمور على حالها، بل باتت أمرا لا مفر منه للحكومة المصرية بعد اتخاذ بعض كبريات شركات الملاحة الدولية قرارات بتحويل مسار سفنها من القناة إلى رأس الرجاء الصالح، ومنها شركة «إيه.بي مولر مايرسك» الدنماركية التي تمتلك أسطول نفط كبيراً مكوناً من 50 ناقلة، وشركة سفيتزر، التي تعد أكبر شركة في العالم لتشغيل سفن القطر، ومجموعة أودفييل النرويجية لناقلات المواد الكيماوية، وشركة كبيرة أخرى لتشغيل سفن نقل الغاز المسال، في حين تفكر شركة فرونتلاين النرويجية التي تنقل جزءا كبيرا من نفط الخليج إلى الأسواق الدولية بأن تحذو حذو هذه الشركات.

وكل هذه إجراءات غير عادية في زمن السلم حسبما يؤكد روب لوماس الأمين العام لمجموعة إنتركارجو التي تمثل ملاك سفن نقل البضائع الجافة، والذي يقول: «على مدى مئات السنين من الخبرة في مجال الشحن، قابلنا أحداثا من قبل أغلقت فيها قناة السويس، بعد حرب 1967 بين العرب وإسرائيل على سبيل المثال، لكن هذا الأمر لم يسبق له مثيل في القرصنة».

ويعود جزء من تحويل هذه الشركات لسفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح إلى أن أسعار التأمين على السفن زادت بحوالي 10% منذ الصيف للرحلات التي تمر في خليج عدن، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع كلفة المرور عبر قناة السويس. وهناك توقعات بأن يقوم السماسرة وشركات التأمين برفع هذه الأسعار بدرجة أكبر بعد اختطاف الناقلة السعودية.

وقد بدأت إجراءات تحويل مسار السفن تؤثر بالفعل على عائدات القناة، حيث انخفضت إلى 467.5 مليون دولار في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعد أن كانت قد وصلت إلى 504.5 ملايين دولار في أغسطس (آب) عندما استخدم القناة عدد قياسي بلغ 1993 سفينة. ويعود السبب المباشر في الانخفاض إلى تركيز القراصنة على اختطاف ناقلات النفط العملاقة التي تشكل 17% من إجمالي البضائع المارة في القناة، وكذلك إلى انخفاض أسعار العملات وتقلباتها المستمرة كان له تأثير محدود على إيرادات القناة بسبب تحصيل قناة السويس رسومها عن طريق وحدة حقوق السحب الخاصة.

* كاتب وباحث مصري

back to top