القرصنة... التاريخ والمشكلة والحل (1-5)

نشر في 27-01-2009
آخر تحديث 27-01-2009 | 00:00
 د. عمار علي حسن شكلت القرصنة فصلا عريضا من فصول رهبة البحر لدى البشر، والتي تم التعبير عنها شعرا ونثرا وسينمائيا، لتتراكم لدى الإنسانية علامات عديدة على خشية البحر، والخوف من المجهول الذي لا يمكن التنبؤ بما يخبئه، واستحالة السيطرة على قواه المدمرة.

هناك شح ظاهر في البحوث الجادة التي تتصدى لدراسة «ظاهرة القرصنة» أوجده في الأساس غموض عالم لصوص البحار، وقلة المعلومات المتوافرة عنه، في ظل صعوبة وصول الدارسين والباحثين إلى هؤلاء، وندرة سيرهم الذاتية المكتوبة، وقدم تجاربهم المريرة وتنوعها، وتعقد الكتابة عنهم، واستعصائها على فرد واحد حتى لو كان مسلحا بمعرفة موسوعية أو إحاطية، بل إن مجموعة من الباحثين ليس بوسعها أن تقف على هذه الظاهرة المتجذرة في تاريخ الإنسانية المديد وقوفا ضافيا، إلا بجهد بالغ، وتمويل طائل، وانكباب كامل أو تفرغ تام لها على مدار وقت كاف.

لكن شح المعرفة وضعف الإلمام بهذه الظاهرة في بعديها التاريخي والثقافي لا تصد ولا ترد عن إمعان النظر في صورتها الأخيرة التي توافرت عنها معلومات غزيرة نسبيا، بعد أن صارت عربية الطابع، بفعل قيامها على أكتاف مجموعات صومالية، بعد أن جالت وطافت في مشارق الأرض ومغاربها على مدار حياة الناس على الأرض، منذ أن مخرت السفن عباب أعالي البحار، حيث لم تترك القرصنة أمة ولا شعبا إلا ووصمته ببعض عوراتها.

ولم يعد من المستساغ أن يتعامل العرب بأعصاب باردة مع «ظاهرة القرصنة» التي تجري على قدم وساق في مياه المحيط الهندي وخليج عدن، ليس فقط لأنها تنطلق من أرض دولة عربية هي الصومال، بل أيضا لأنها ترمي إلى النيل من الأمن القومي العربي برمته، لاسيما بعد أن تكشفت تدابير واستراتيجيات مضادة تروم تدويل البحر الأحمر، وإضعاف الدور الحيوي الذي تلعبه قناة السويس في حركة الملاحة الدولية لمصلحة إحياء مشروع «قناة البحرين» الإسرائيلية.

ويؤدي استفحال ظاهرة القرصنة هذه إلى تبديد آمال عمرها سنين عقدتها مصر على «قناة السويس»، الشريان الحيوي والتاريخي لحركة التجارة الدولية المتدفقة بلا هوادة، والتي تصب في شرايين عولمة اقتصادية كاسحة، لايزال النقل البحري إحدى ركائزها الأساسية رغم السرعة الفائقة التي شهدها النقل البري والجوي، والطفرة الرهيبة التي قفزتها الاتصالات، بما حول الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة.

وتعني القرصنة في جوهرها التعدي على حقوق الآخرين، وتنصرف بصيغة مباشرة إلى ارتكاب جريمة سرقة في عرض البحار أو على شواطئها، بيد عميل أو لص غير مدفوع من أي دولة أو حكومة، وتتطلب القرصنة شروطاً أساسية لقيامها، منها: توافر مواد أولية لصناعة السفن، وكذلك الورش والأيدي المهرة، ثم أسواق لتصريف البضائع المستولى عليها.

وطيلة التاريخ البشري المديد ظلت القرصنة مجالا خصبا للأدباء فأنتجوا على بساطها قصصاً وروايات تتراوح بين الواقعي والأسطوري، حفلت بها بعض الملاحم الشهيرة مثل الإلياذة والأوديسا، وجاءت السينما لتلقط هذه السرديات العامرة بالغرائب والأعاجيب وتصنع منها أفلاما شاهدها المليارات في كل أرجاء العالم.

وشكلت القرصنة هنا فصلا عريضا من فصول رهبة البحر لدى البشر، والتي تم التعبير عنها شعرا ونثرا وسينمائيا، لتتراكم لدى الإنسانية علامات عديدة على خشية البحر، والخوف من المجهول الذي لا يمكن التنبؤ بما يخبئه، واستحالة السيطرة على قواه المدمرة، جنبا إلى جنب مع علامات على إثارة البحر لروح التحدي والمغامرة والإبداع والخيال، وكعنصر لا غنى عنه في الحياة، حيث تُنقل السلع جميعها، وتمتد الجسور بين الثقافات، عبر سفن تحمل الأفكار إلى جانب البضائع والناس.

وقد امتد المصطلح إلى عالم الحاسوب فصار يعرف بأنه عملية نسخ البرامج الإلكترونية وبيعها، واستخدام الشبكات في التجسس والحصول على المعلومات، ويشمل أيضا مهاجمة موقع إلكتروني وتدميره إن أمكن.

وحسب ما أورده الباحث الروسي ياتسيك ماخوفسكي في كتابه المهم «تاريخ القرصنة في العالم» فإن هذا التاريخ يعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، لكن كلمة قرصان لم يتفوه بها أحد قبل عام 140 قبل الميلاد حين سطرها المؤرخ الروماني بوليبيوس، وعاد نظيره اليوناني بلوتارك ليرددها في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، الذي ازدهرت فيه أعمال القرصنة، والتي كان أول ظهور لها في البحر المتوسط، حين استخدم أعداء الإمبراطورية الرومانية لصوص البحر لضرب مصالحها.

وقد أصبح القراصنة أيامها قوة ضاربة، حيث وصلت أعدادهم إلى الآلاف وكانت لديهم أكثر من ألف سفينة، وبحوزتهم الأسلحة والقلاع، فتمكنوا من مهاجمة السفن والموانئ، وخطف حكام وقضاة رومان، وطلبوا فديات كبيرة من المدن الساحلية والموانئ حتى يمكنها أن تعيش في سلام.

ووصلت جرأة هؤلاء القراصنة إلى مهاجمة الأسطول الروماني الراسي في ميناء أوسيتيا فحطموه، ووضعوا روما على أبواب مجاعة نتيجة انقطاع طريقها التجاري، وفشلت عدة حملات جردها الرومان في القضاء على القراصنة، حتى جاء القائد بومباي عام 67 قبل الميلاد ليقود جيشا جرارا مكونا من مئة وعشرين ألف جندي مشاة، وخمسة آلاف فارس وخمسمئة سفينة، ويتمكن من هزيمة القراصنة وأسر عشرين ألفا منهم وتدمير نحو ألف وثلاثمئة سفينة لهم.

وولدت حركة القرصنة قوية من جديد على قبائل الفايكنج، الذين يقطنون الدول الإسكندنافية، وفي القرن التاسع الميلادي أخذ بحارة الفايكنج في الاتجاه شمالا وغربا وجنوبا، فوصلوا إلى أيسلندا وغرينلاند وكندا، ثم بلغوا شواطئ إنكلترا عام 787م، واستولوا عليها وحكموها.

وفي التاسع عشر هاجم القراصنة الفايكنج باريس، فاضطر ملوك فرنسا إلى دفع مبالغ طائلة لهم حتى يتقوا شرهم، وتمكن بعضهم من الاستيلاء على منطقة نورماندي شمال فرنسا، واستوطنوها واختلطوا بسكانها، وصاروا مع الأيام منهم، وأسسوا أقوى الممالك في أوروبا خلال القرن الثاني عشر الميلادي في صقلية وإنكلترا.

ومارس البحارة الإنكليز أنفسهم أعمال القرصنة ضد السفن الإسبانية التي تمخر عباب القنال الإنكليزي عائدة من المستعمرات الإسبانية محملة بكل ما هو مفيد ونفيس. وامتدت هجماتهم إلى حدود إسبانيا القريبة وسواحل مستعمراتها في أميركا اللاتينية. وفي القرن السابع عشر أسس قراصنة جزر الهند الغربية منظمة أطلقوا عليها «إخوان الشاطئ» أو «البوكانير» وتخصصوا في نهب السفن الإسبانية.

وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بلغت القرصنة ذروتها، مع نمو القوة المركزية القوية في اليابان في ظل التكوجاوا شوجونيت (1603ـ 1867)، لكن أسرة شمي يانغ التي حكمت الصين تمكنت من القضاء على معظم القراصنة.

* كاتب وباحث مصري

back to top