إذا كانت الولايات المتحدة منحازة بالكامل لمصلحة إسرائيل، فإن بعض المواقف الأوروبية المنافقة اتضحت بجلاء حيال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. ولعل توقيع اتفاقية أميركية-إسرائيلية (مذكرة تفاهم) تقضي باستخدام التكنولوجيا الأميركية في منع تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة ومراقبة الحدود المصرية وإغلاق الأنفاق الموجودة ومنع حفر أنفاق جديدة ووضع الأجواء والبحار في إطار المساحة الجغرافية التي يغطيها البروتوكول، كان انحيازاً صارخاً للعدوان، والأكثر منه حين رست سفينة محملة بـ300 حاوية تضم مختلف أنواع الأسلحة والمعدات، بما فيها الطائرات والمدفعية التي تستخدم ضد المدنيين الفلسطينيين، التي شملت القذائف الفسفورية والسامة، تلك التي لم تنته التجارب منها بعد وغير معروفة نتائجها المستقبلية.

Ad

وكان رفض الرئيس بوش وقف النار وصمت الرئيس أوباما وتبريرات بعض زعماء أوروبا للعدوان بحجة الدفاع عن النفس وصد هجمات «حماس» الصاروخية، انحيازاً مفضوحاً لمصلحة إسرائيل وخروجاً على ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانوني الدولي، والقانون الدولي الإنساني، لاسيما اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977.

والأخطر في البروتوكول الأميركي-الإسرائيلي هو مشاركة حلف شمالي الأطلسي (الناتو) إلى جانب الولايات المتحدة في تنفيذه، الأمر الذي سيعني إشراك قوى ودول ومؤسسات عسكرية لمحاصرة المقاومة الفلسطينية المشروعة، بذريعة ما يسمى مراقبة ووقف عمليات تهريب الأسلحة، ولعل ذلك سيحوّل الكثير من البلدان والجهات إلى «وكلاء» لتنفيذ ما تقرره إسرائيل وواشنطن من إجراءات وتدابير.

ولا شك أن إجراءات مثل تلك تعتبر قرصنة جديدة وتجاوزاً سافراً على قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وعلى حق الدول في سيادتها واستقلالها وعدم إملاء سياسات عليها تتعارض مع مصالحها القومية، لاسيما إذا كان جزءًا من أراضيها محتلاً، وهناك مقاومة يكفلها القانون الدولي ضد الاحتلال.

إن عملاً من هذا القبيل لم يكن في أي يوم من الأيام يندرج في إطار القانون الدولي، أي إجبار دول على المراقبة لمصلحة دول أخرى، فما بالك إذا كانت الدول صاحبة القرار هي معتدية، والأخرى هي الضحية، ثم إن مهمات من هذا القبيل لا تدخل في مهمات حلف الناتو «الدفاعية» لأن هذا العمل العدواني إزاء المقاومة الفلسطينية، سيعطيها الحق في الدفاع المشروع عن نفسها لا ضد إسرائيل فحسب، بل ضد حلف الناتو ذاته، وهو دفاع مشروع حسبما تقرره المادة 51 في ميثاق الأمم المتحدة، وبهذا المعنى يكون حلف الناتو والولايات المتحدة، إضافة إلى إسرائيل أطرافاً في النزاع، الأمر الذي سيجعل الولايات المتحدة كطرف لا كوسيط أو «راع» لعملية السلام التي اعتمدت منذ اتفاق مدريد-أوسلو 1991-1993.

ولعل هذا الأمر ينبغي وضعه في الحسبان عربياً مادامت البلدان العربية حتى اليوم ورغم التفاوت في مواقفها تؤمن بحق المقاومة الفلسطينية العادل والمشروع في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما أكدته قمتا الدوحة والكويت الاقتصادية، وتمت على أساسه وضع لبنات أولية للمصالحة العربية.

ومن المناسب قبل استعراض ما ورد في مذكرة التفاهم الأميركية-الإسرائيلية، استذكار ما تم توقيعه من اتفاق شراكة عشية العدوان على غزة بين فرنسا وإسرائيل (8 ديسمبر 2008) وهي اتفاقية شراكة ضمنت حماية جديدة لإسرائيل، التي لاتزال تتنكر لاحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بل تمعن في حصار غزة اللاإنساني وصولاً إلى عدوانها لاحقاً، الذي دام 22 يوماً (27 ديسمبر ولغاية 18 يناير 2009)، وهو الأمر الذي أثار جدلاً لدى البرلمان الأوروبي ذاته، خصوصاً أن فرنسا مثلت رئاسته لحظة التوقيع على اتفاقية مع إسرائيل.

ونصت مذكرة التفاهم الموقعة من وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني ووزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس عشية وقف إطلاق النار على «التعاون الوثيق بين الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، بغرض منع وصول الأسلحة إلى قطاع غزة، وتضمنت سبعة بنود أساسية هي:

البند الأول تناول التعاون مع الدول المجاورة والمجتمع الدولي لمنع وصول الأسلحة والمواد المتعلقة بها.

البند الثاني، نص على تعاون الولايات المتحدة مع الشركاء في المنطقة ومع حلف شمال الأطلسي عبر البحر المتوسط وخليج عدن والساحل الشرقي من البحر الأحمر في إفريقيا للغرض ذاته (منع وصول الأسلحة) من خلال تحسين الترتيبات القائمة أو إطلاق مبادرات جديدة لزيادة فاعلية هذه الترتيبات.

أما المواد الخمس الأخرى فشملت تعهد واشنطن وتل أبيب، بتبادل المعلومات، لتحديد مصدر الأسلحة التي ترد إلى غزة وتسريع جهود المساعدات اللوجستية والفنية لتدريب قوات الأمن وتجهيزها وتعزيز برامجها، والعمل على توسيع برامج المساعدات الدولية للمجتمعات المحلية، لتوفير مصادر بديلة للدخل للمشاركين في أنشطة التدريب ووضع الآليات المناسبة لمتابعة تنفيذ الخطوات الواردة في مذكرة التفاهم.

ولعل أي قراءة استراتيجية وقانونية لمذكرة التفاهم ستضع البندين الأولين في الصدارة، لاسيما موضوع تعزيز التعاون الأمني والاستخباري بين الولايات المتحدة والحكومات الإقليمية من خلال إشراك المخابرات المركزية الأميركية والقيادات العسكرية الأميركية في إفريقيا وأوروبا وقيادة العمليات الخاصة، إضافة إلى المنظومة الاستخبارية البحرية، للهدف الذي حدده البروتوكول، واتخاذ «العقوبات» ضد خرق نصوصه، لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بدعم المقاومة الفلسطينية، خصوصاً اتهام الجهة المعنية بتسهيل مهمة نقل السلاح إليها.

لعل هذه الفكرة (مذكرة التفاهم) هي الحصاد الأكيد لإسرائيل سياسياً وهي الثمن الذي أرادته لعدوانها على غزة، التي لم تنجح فيه عسكرياً، حيث أعطت مذكرة التفاهم الحق للقوى المتنفذة (الولايات المتحدة وإسرائيل وحلف الناتو والدول المتحالفة معهم) القيام بأعمال المراقبة «القرصنة» البحرية وكذلك «الجوية» عندما يستوجب الأمر (البحر والجو) حيث سيكون لأكثر من دولة عربية وشرق أوسطية احتكاك وتماس بذلك، ابتداءً من المحيط الأطلسي ومروراً بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب والخليج العربي وصولاً إلى المحيط الهندي.

فكيف ستتعاطى الدول العربية ذات العلاقة مع مذكرة التفاهم؟ وكيف السبيل للتخلص من آثارها وقيودها التي هي أقرب إلى الوصاية تحت بند الحماية والمراقبة، لاسيما إذا كانت آليات تنفيذها شديدة الوطأة؟ الأمر الذي سيضع عدداً من الاعتبارات في المقدمة، منها حماية أمنها وسيادتها وبالتالي عدم إجبارها على الخضوع بما يتعارض مع مصالحها، ناهيكم عن قواعد القانون الدولي.

إن هذه المسألة وغيرها من قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي، تتطلب استخدام جميع الوسائل بما فيها القانون الدولي، الأمر الذي يتطلب عملاً سياسياً ودبلوماسياً وقانونياً حكومياً وغير حكومي، بما فيه إشراك المجتمع المدني وحشد طاقاته لإثبات عدم شرعية ولا قانونية البروتوكول الأميركي-الإسرائيلي، وبالتالي التحرر من آثاره والتخلص من قيوده، لأنه يشكل تهديداً لأمن وسلم المنطقة وانتقاصاً من سيادة واستقلال دولها.

وبالمقابل فإن عملاً عربياً تضامنياً وبمشاركة المجتمع المدني العربي وتوجيه لائحة اتهام ضد إسرائيل لما نفذته من مجازر في غزة، ناهيكم عن حشد الرأي العام العالمي، يمكن أن يسهم في وضع مذكرة التفاهم في إطار اللاشرعية، وبالتالي المساءلة والتحريم بكونها تشكل ذيلاً من ذيول العدوان!

* باحث ومفكر عربي