قصة مدينتين
كالفارقُ بين طبيعة الانطوائي والانبساطي، يبدو الفارقُ بين لندن وباريس.
حين خرجتُ إلى المنفى قبل ثلاثين عاماً، كان هدفي باريس. مثقفو مرحلتي يرون في باريس ينبوعَ ثقافتهم، بسبب كثافة الترجمة عن الفرنسية في معظم المجلات الطليعية التي كانت تأتينا من بيروت: شعر، الأديب، الآداب، مواقف، والكرمل. على الرغم من أن الفرنسية لمْ تكن شائعةً بيننا. كان الشاعرُ الإنكليزي أو الروسي يأتينا عبر دفتي كتاب، أما رامبو أو سارتر فمقيم بيننا، وغير وافد. بقيت في باريس قرابة شهرين قبلَ أن أعبر المانش لزيارة أخي، الذي سبقني في الهجرة إلى لندن، كنت أنوي الزيارةَ والعودة، فباريس قدري، ولمْ تكن لندن في الحسبان، على أن باريس خلّفت في كياني مرارةً جعلت لون القدر أكثرَ قتامة، كانت شحيحةً معي، ضيّقةً عليّ، متعالية وقاسية، ضيّفني صديق في غرفته التي لا تسعه، ولمْ تتركْ لي مطاعمُها وخمّاراتُها إلا فرصةَ أن أُحدّق من وراء زجاج الواجهة، وهي كالطبيعة، جميلةٌ، مضيئةُ، ولا مبالية. في أيام معدودة أشعرتني لندن بأنها أكرم، وأرحب، وأكثر تواضعاً ورقة، لم أكتشف السبب وراء هذا الشعور، إلا بعد أن قطعت شوطاً طويلاً في الإقامة، كان الحصولُ على سكَن وعملٍ وإقامة وجنسية أيسر مما كنت أتصوّر، ولكن هذه الفضائل، التي أرضت الإنسانَ بي، لم تكن كافية لإرضاء الشاعر، كنت أحتاج إلى شيء أبعد أثراً من اللمسة المادية. كانت باريس مدينة فضاء وأفق، مدينة إضاءة خارجية، شارعية إن صحّ التعبير، كلُّ شيء فيها مطروحٌ في الشارع: مقاهيها، مطاعمها، ناسها، زائروها، ومثقفوها. لا يملك أحدٌ فيها أن يظلّ وراء جدرانه، فخارج الجدران أكثر من إغواء، ولذا تبدو خارجيةً، لا داخل فيها. ظاهريةً، لا باطن لها. طبيعة الانبساطي طبيعةُ باريس، وفي المقابل بدت لي لندن بطبيعةِ الإنطوائي، مضببة، بسماء مُغلقة على الأغلب. شوارعها لا تكشف بتظاهر عن مقاهٍ، مطاعم، زحمة، مثقفين وسائحين، قد يفيض هؤلاء ولكن في أحياء المركز وحدها. ولندن أوسع من مركزها بكثير، لأن السكن فيها أفقي، في حين تبدو باريس مركزاً كلّها، والسكنُ فيها عمودي. ما من إضاءة في لندن، لأن َإضاءتها داخلية، تميل إلى الصمت، رغبةً في الإصغاء لا بالحديث، أدبُها وفكرُها لا يميلان إلى وثبات الموضة، شأن باريس، هما بثبات سيارة نقل الركاب هنا، وصندوق البريد، وكابينة التلفون. تحب الدعابة ولكن على النفس، لا على الآخر، نفَسُها طويلٌ، وأبهاءُ باراتها نصف مُضاءة. مع الأيام تعرّفتُ في هذه السيدة الحكيمة معنى الرحيل الداخلي، والإضاءة الداخلية، معنى بلاغة الدلالةِ لا بلاغة الصياغة اللفظية، معنى الإصغاء لا الكلام، معنى استهجان الذاتِ لا الآخر، معنى الغموض لا الالتباس، معنى أنني باطني لا انبساطي، وبالتالي تعبيريّ لا انطباعي، واتسعت الرؤيةُ ففهمت علّةَ ميلي إلى شاعر مثل السيّاب، البريكان، عبد الصبور وانتصارهم لبلاغة الدلالة، لا أدونيس، والكثير الكثير من مقلدي حداثته، وانتصارهم لبلاغةِ الصياغة اللفظية. باريس أقربُ عواصم أوروبا إلى لندن، ولكني أشعر أنها أبعدها. شاءت الرغبةُ أنْ أزورها أخيراً، وفي نفسي ذاك الهاجس الذي نما، وتحوّل إلى وعي، وموقف. بدت لي، على عهدها، مُضيئةً، ورديةً، وآسرة. يسيرة بين يدي السائح، ولكنْ بغنَجٍ وتعالٍ. وبفعلِ كلّ هذه المزايا أصبحَ كلُّ شيء فيها سلعةً سياحية، غاليةَ الثمن، مازالت تدفعك إلى الخارجِ، خارجِ ذاتك، لتحتضن ثقافتها المُسعّرة بجشع وبخل، فأنت لكي تدخلَ متحف اللوفر الدائم وحده، وتزور المعارض الفنية المؤقتة فيه، يُحوجك الأمر إلى دفعِ مبلغ يتجاوز المئتي يورو، من دون تخفيض لمُسن أو مُقعد. كلُّ شيء بثمن، حتى رؤية قبر نابليون. حين يزول هدف التربية والتعليم من أي عرض فني وثقافي، ويحلّ بدله هدف ربحي، سياحي، تشحب جدواه بالضرورة. ولذلك جددت حرصي، في العودة، على علاقتي الوثيقة بمتاحف لندن المجانية للمواطن، وللسائح، وعرفت أن السياحةَ لنْ تملكَ أن تبطلَ، بما تدفع، جدوى التربية والتعليم.