في السابع عشر من أبريل من العام الماضي، حضر الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد استعراضاً للقوة الجوية العسكرية الإيرانية، حيث أعلن أن بلاده هي «أقوى دولة على وجه الأرض»، وهو الأمر الذي يذكرنا بتصريحات مشابهة كان أدلى بها هتلر وموسوليني وصدام حسين، قبل أن يأخذهم الخطل، والاعتداد الزائد، والهوس المأفون بالقوة، والانتشاء الواهم بصيحات الجماهير المأزومة إلى أكثر زوايا التاريخ بؤساً وعتمة.

Ad

لا شك أن الجمهورية الإسلامية حققت تقدماً واضحاً على طريق بناء القوة الصلبة؛ إذ سخّرت الكثير من إمكاناتها، بدأب وإصرار جديرين بالإعجاب، من أجل بناء قوة عسكرية ضاربة، تزيل الإحساس بالمذلة التاريخية للإمبراطورية الفارسية التي فقدت عزها، وتعالج الشعور الكامن بالاضطهاد والتربص كما يظهر في المظلومية الشيعية، وتلبي استحقاقات ثورة فائرة مسكونة بالإيديولوجيا ومرهونة للحتمية العقائدية.

كما أن طهران اجتهدت كثيراً وخاطرت وأنفقت وناورت وتكبدت العناء، لتمد أذرعها في أكثر ملفات الإقليم سخونة، وتصبح بحق «قوة عظمى إقليمية قيد الإنشاء»، وباباً للحل والحسم في أعمق قضايا المنطقة تاريخية وأكثرها إثارة للصراع والجدل.

يقول حسين شريعتمداري أحد مستشاري الزعيم الأعلى للدولة الإيرانية ورئيس تحرير صحيفة «كيهان» النافذة، على هامش الاحتفال بذكرى الثورة الإسلامية قبل أيام: «الثورة لم تكن حية أكثر من اليوم، ولم يكن تصديرها أقوى مما هو عليه الآن. الجميع يعرف أنه لا يمكن حل الأزمات في الشرق الأوسط من العراق إلى أفغانستان مروراً بفلسطين، من دون العروج على إيران. بعد ثلاثين سنة أصبحنا القوة الأولى في المنطقة عسكرياً وتكنولوجياً، والثورة وأفكارها تصدر لبلاد إسلامية أخرى».

شعرت الدولة الإيرانية بانتشاء بالغ في الآونة الأخيرة؛ فمن جهة راح جورج بوش الابن وبقي النظام الثوري في طهران، ولانت أفغانستان، وبات العراق أكثر طواعية واستجابة للنفوذ الإيراني، وصمد «حزب الله» في لبنان، وبعده «انتصرت» حركة «حماس» على العدوان الإسرائيلي ضد غزة، ومد أوباما يده، مغلباً، كما يبدو، الدبلوماسية على الصراع في ملف المشروع النووي.

ولا يجب أن يكون شعور الانتشاء الإيراني محط حقد أو حسد هنا في العالم العربي، كما لا يدفع هذا الزهو الزائد بالقوة والمنعة إلى الارتياب حكماً وبالضرورة، بل على العكس، كان من الممكن أن ينظر الجيران العرب إلى القوة الإيرانية على أنها ظهير إسلامي أكثر توافقاً مع الرؤية العربية ورفداً لها، وربما حليف مفترض في مواجهة بعض ما يظهر من إملاءات أميركية أحياناً ومن غطرسة وعدوانية وعنصرية وهمجية إسرائيلية في الأحيان كلها.

لكن غرور القوة الإيرانية أبى إلا أن يتحول تهديداً سافراً للاستقلال ومشروع الدولة في دول عربية، وللتراب الوطني في بعضها، وللسيادة والبقاء ذاته في بعضها الآخر.

فها هو علي أكبر ناطق نوري رئيس التفتيش العام بمكتب الزعيم الأعلى للجمهورية الإسلامية يقول في الاحتفال بالعيد الثلاثين للثورة: «البحرين كانت بالأساس المحافظة الإيرانية الرابعة عشرة، وكان يمثلها نائب في مجلس الشورى الوطني الإيراني»، وهو الأمر ذاته الذي كرره النائب البرلماني داريوش قنبري، كما سبق أن أكده شريعتمداري.

ومنذ احتفالات الذكرى السنوية للثورة حتى أيام قليلة فائتة، بدا أن ثمة إصراراً إيرانياً على توالي التصريحات الإعلامية القائلة بـ«سيادة إيران» على الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) من جهة، وعلى اعتبار البحرين «ولاية إيرانية اقتطعت بالقوة من الجسد الإيراني» من جهة أخرى.

والواقع أنه سيكون من العبث التعاطي مع تلك التصريحات على أنها آراء شخصية لا تمثل الدولة الإيرانية، كما سيكون من التنطع فصلها عن سياقها العام الذي أتت به؛ إذ تزامنت مع إحساس الزهو العارم بـ«ثورة انتصرت على التحديات كافة، وباتت أقوى في عيدها الثلاثين، وأكثر نفوذاً في الإقليم والعالم، وأوسع قدرة على تصدير أفكارها».

وعلى عكس الاستجابات العربية المتراخية لكثير من الحوادث التي تحيق بعالمنا العربي، فقد ردت البحرين بقوة على الادعاءات الإيرانية، فقطعت مفاوضاتها مع طهران حول استيراد الغاز، كما استدعت السفير الإيراني لدى المنامة وعبرت له عن «احتجاجها». كما أدانت السعودية بشدة التصريحات الإيرانية، واعتبرتها «عدائية وتعدياً سافراً» على سيادة دولة عربية يجب أن تحظى بالاحترام التام.

وفيما أعربت الإمارات العربية المتحدة عن «استيائها» من التصريحات الإيرانية، ولاحظت أيضاً أن طهران «أصدرت في الآونة الأخيرة تصريحات عدة تشكل باعثاً على عدم الاستقرار في منطقة الخليج»، زار الرئيس المصري حسني مبارك البحرين، وكذلك فعل العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني؛ حيث عبرا عن تضامنهما مع المنامة في هذا الموقف، وتأكيدهما لسيادتها التي تستوجب الاحترام.

عادت طهران إلى لغة ناعمة لتسكين الاحتجاجات العربية، معلنة أنه «لا وجود لأطماع لها في البحرين، وأنها تحترم سيادة هذا البلد»، ومعتبرة أن تلك التصريحات «لا يجب أن تمس بالتعاون المشترك بين البلدين»، وهو أمر سيبقى محل شك كبير.

أظهر الشعب البحريني ونخبه المختلفة التفافاً واضحاً حول دولته وحرصاً ظاهراً على الذود عنها ضد استهداف بقائها وسيادتها وكرامتها، وهو الشعب نفسه الذي اختار في استفتاء عام، أجري بإشراف دولي، أن تستقل دولته عن الحماية البريطانية والأطماع الإيرانية في آن، حيث نال استقلاله في العام 1971. كما ظهر الانزعاج الواضح لدى الدول العربية الرئيسة من الهجمات الكلامية الإيرانية، لكن ذلك لن يضمن طي الملف الإيراني-البحريني، ودرء الفتنة التي تسعى أوساط في الحكم الإيراني إلى تأجيجها وإبقائها حية.

يعتقد نجاد أن قوة بلاده المتنامية تعني «قلب النظام العالمي رأساً على عقب»، ويطالب المنطقة والعالم بـ«الاستعداد لتطورات كبرى مقبلة»، وهي لغة تهديد واضحة تدفع المنطقة إلى حافة براكين وأهوال، وتستدعي المخاوف والاضطرابات والتحالفات مع القوى الغربية ومعها عدم الاستقرار والانصراف إلى الصراع عوضاً عن التركيز في حل النزاعات ومواجهة الأزمات المالية وخوض معارك التنمية.

لا تقف الأزمة التي يشعلها الانتشاء العارم بـ«القوة العظمى الإيرانية» عند إثارة تبعية البحرين لطهران كـ«محافظة رابعة عشرة» فقط، لكنها تذهب إلى محافظات أخرى كثيرة تمكّن لها الجمهورية الإسلامية سواء في لبنان أو غزة أو العراق أو صعدة... والحبل على الجرار.

وإلى أن تتوقف إيران عن إشاعة الاستعلاء وإفشاء الفتن وإشعال الصراعات، ستظل قوتها محل شك وريبة وتحوّط من جانب جيرانها العرب، وعلى عكس ما يتوهم قادتها، فستكون باباً للأزمات في الشرق الأوسط لا حلاً لها، وهي أزمات لن نسلم منها نحن... ولا هي.

* كاتب مصري