سواء كانت الصواريخ التي أطلقت من جنوب لبنان «مشبوهة» مثل سابقاتها قبل عشرة أيام أم «شريفة» مثل تلك الوارد مشاركتها في حرب محتملة مع إسرائيل، فإنها دليل واضح على أن هذا البلد لايزال حقل تجارب مستباحاً، وأنّ حياة أبنائه لاتزال رهينة مطروحة في مزاد الحرب أو المفاوضات.
لبنان معنيٌّ بالعدوان على غزة، هذا أمر مفروغ منه، فهو جزء من الصراع مع إسرائيل، وأي تطور على جبهة النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي له تبعات على عملية السلام أو على الهدنة في جنوبه أو على احتمالات الحرب، لكن لبنان لا يمكن أن يستمر ساحةً لمحور الممانعة الذي يقوده أحمدي نجاد أو أن يعامل بوصفه ذراعاً إيرانية ذات وظيفة في توسيع نفوذ طهران أو تمرير ملفها النووي إلى شاطئ الأمان.صواريخ صباح الخميس لها جملة تفسيرات، ولا يفيد أن ينكرها «حزب الله»، أو أن يثير الالتباس بشأنها الناطق باسم أحمد جبريل، فكلها في النهاية في جعبة محورٍ واحد بغض النظر عن اليد التي تزرعها ليُعثر عليها، أو تطلقها لتحذير إسرائيل من مغبة توسيع جبهة القتال رداً على الإيغال في تدمير «حماس»، أو تقصف بها المبادرة المصرية-الساركوزية لإنهاء العدوان في القطاع.الأخطر من مجرد إطلاق «صواريخ الرسائل» على وقع المساعي السياسية، أو تنبيه إسرائيل إلى جدية تضامن «حزب الله» مع نظيرته «حماس»، هو وقوع الصواريخ على انقسام داخلي لبناني عميق، تمت تغطيته حتى الآن بوحدة اللبنانيين الكاملة إزاء الكارثة الإنسانية التي يعانيها فلسطينيو غزة، وهي وحدة لا تنسحب على الإطلاق على قرار يتخذه «محور الممانعة» في خوض «حرب تموز» جديدة انطلاقاً من جنوب لبنان.وضع «حماس» دقيق، فهي تحت القصف وتحت الخطة الإسرائيلية المبرمجة لحشر القطاع كله في مدينة غزة وتحويل سلطة الأمر الواقع فيها عاجزة حتى عن الوفاء بالالتزامات الحياتية الأساسية إزاء الناس، وهي تحت الضغط السياسي لمنعها من تحقيق أي هدف وضعته خصوصاً لجهة رفع الحصار وطبيعة الرقابة على معبر رفح والقدرة على استمرار الصواريخ.في المقابل، وضع لبنان دقيق أيضاً، فهو مرّ بتجربة «حرب تموز» التي أنجبت القرار 1701 الذي سيكون أيّ تفريطٍ به مكلفاً، ومرّ بتداعيات تلك الحرب وما تضمنته من احتلالٍ لوسط بيروت وتخوينٍ وتعطيل للمؤسسات فنجا منها بأعجوبة «اتفاق الدوحة» التي ولدت رئيساً للجمهورية لايزال في طور إنعاش المؤسسات، ومن الإجرام الإخلال بهذا التوافق على مذبح النزاع الإقليمي.«حزب الله» في وضعٍ حرج: إنه ممزقٌ بين الواجب الديني والإيديولوجي، الذي يدفعه إلى خوض غمار الحرب رفعاً للضغط عن غزة، وبين الواقع السياسي اللبناني الذي يعرّض لبنان للتمزيق إنْ خيضت هذه الحرب خارج إطار التوافق والشرعية.لذلك فإنّ الرهان كبير على ضبطٍ للنفس يقصر الدعم في الإطارين السياسي والإنساني، ويُعفي لبنان من كأس آلة الدمار الإسرائيلية المرّة، ويحول دون تهديد وحدته وشرعيته ودولته ونسيجه الطائفي والمذهبيّ لخطر الانفراط في حال انفرد «حزب الله» بقرارٍ دراماتيكي.صعّد الأمين العام لـ«حزب الله» لهجته في يوم عاشوراء، وله كل الحق في الدفاع عن غزة وأطفالها الذين تمزّقهم مدافع إيهود باراك، لكنّ قوله بانتهاء النقاش بشأن «استراتيجية الدفاع» في لبنان يحمل مؤشراتٍ خطيرة يُخشى أن تنقل المشكلة القائمة من مكانٍ إلى آخر، وتأتي «الصواريخ» لتزيد احتمالات التوتر وارتكاب الأخطاء وربما توفير الذرائع للعدو... هنا لا بدّ من دور للرئيس ميشال سليمان يتجاوز حكومة «الوحدة الوطنية» الهشة ورفض «14 آذار» لأي «مغامرة» واضطرار «حزب الله» إلى وضعها ضمن الاحتمالات.ودور الرئيس أن يقول إن الدولة أهم من الأحزاب وإن غزة في القلب والعين، لكنّ لبنان وطن يحق له أن يفي بالتزاماته تجاه المجتمع الدولي، وأن يحفظ وفاق كلّ بنيه وألا يبقى رهينة على مذبح المحاور أو مجرد منصة للإطلاق!
مقالات
لبنان المستباح
09-01-2009