فوضى الفتاوى: ما الحل؟!

نشر في 23-02-2009
آخر تحديث 23-02-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري الفتاوى الدينية- عامة- وعلى امتداد التاريخ الإسلامي، كانت مصدر إثراء وخصوبة للفقه والفكر الإسلامي، وكانت عاملاً رئيسياً في حيوية المجتمعات الإسلامية، وساهمت بفعالية وتبصر في حل معظم المشكلات والقضايا الطارئة والمستجدة في تلك المجتمعات، لكن الفتاوى الدينية أصبحت اليوم قضية تثير الكثير من الجدل، بل تحولت إلى مشكلة مستعصية ذات جوانب مختلفة: سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية، وأنا هنا لا أعمم، بل أقصد جانباً مؤثراً من تلك الفتاوى في الساحة الإعلامية، أقصد تلك الفتاوى التي دفعت آلاف الشباب للذهاب إلى العراق لمقاتلة الأميركيين تحت ذريعة «الجهاد» فتسببت في مقتل الكثير منهم وفي قتل وجرح آلاف العراقيين الأبرياء، ومن عاد من هؤلاء الشباب إلى بلاده، أصبح محارباً لمجتمعه ولحكومته وانتهى مصيره إما بقتله وإما وقوعه في قبضة الأمن وسجنه، ومن يراجع سجل القوائم الأمنية المتتالية التي أصدرتها وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية، يتضح له من واقع اعترافات هؤلاء المغرر بهم أمام سلطات التحقيق، أن المؤثر الأكبر في توجيه فكرهم وسلوكهم نحو استخدام القوة والعنف هو «الفتاوى التحريضية»، والمعضلة الكبرى أن تأثير هذه الفتاوى التحريضية يبقى راسخاً في نفوس هؤلاء الشباب، بدليل أن بيان وزارة الداخلية السعودية الأخير عن قائمة «85» مطلوباً، تضمن حوالي «11» مطلوباً ممن سبق استعادتهم من غوانتنامو، ولم يفلح برنامج الرعاية والتأهيل ولجنة المناصحة في ترشيدهم وتنقية أفكارهم، فانتكسوا وعادوا أشد غلواً وتطرفاً، ولا يقتصر تأثير تلك الفتاوى التحريضية على إهدار طاقات آلاف الشباب في العالم الإسلامي في الهدم والتدمير وإزهاق الأرواح، بل أصبحت تلك الفتاوى تتدخل في أخص خصوصيات المسلم المعاصر، وتلاحقه في تحركاته وسكناته، في حلّه وترحاله، وفي يقظته ومنامه، وفي كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياته.

لقد أصبحت الفتاوى تشكل وجدان المسلم، وتحدد مواقفه وتصوارته السياسية تجاه السلطة الحاكمة في بلاده، وتصبغ نظراته تجاه شعوب العالم وثقافاته، تزرع في نفسيته وفكرته «هواجس» الخوف والقلق والتوتر والكراهية تجاه الآخر الحضاري، فأصبح بعض هؤلاء الشباب عنصراً معوقاً ومعطلاً لعمليات التنمية والإنتاج في مجتمعاتهم، كما أن جانباً من تلك الفتاوى يتحمل مسؤوليته الشحن الطائفي بين أبناء المجتمع الواحد، مما أنتج صراعات دموية راح ضحيتها العشرات من الأبرياء، ولا ننسى أيضاً دور الفتاوى في إذكاء الصراع بين إخوة النضال الفلسطيني «فتح» و«حماس» وتعميق الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني... انظر على سبيل المثال فتاوى صلاة الجمعة في الساحات العامة، حيث تباينت بين الجواز والحرمة، تبعاً للتوجه السياسي لكل فريق، ولكن دعونا نتساءل: لماذا أصبحت الفتاوى الدينية أو جانباً منها، تثير مثل هذه الإشكاليات الضارة والمعوقة لتنمية مجتمعاتنا؟

أتصور أن هناك «3» تطورات طرأت على الساحة، وأفرزت تلك النتائج السلبية وهي: 1- اشتداد الطلب المجتمعي على سوق الفتاوى بكل أشكالها وتنوعاتها، وزيادة

التنافس عليها وفي كل القضايا المجتمعية: السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية حتى وصل الأمر إلى طلب الفتاوى في ميادين طبية وعلمية دقيقة، ولاشك أن الفضائيات الحديثة وشبكة الإنترنت الطارئة تلعبان دوراً بارزاً في هذا الترويج بسبب المكسب المادي السهل.

2- الشهرة الجماهيرية أو النجومية الإعلامية وما يترتب عليها من امتيازات مادية ومعنوية، كانت من أسباب إقبال الكثيرين على برامج الإفتاء والأجوبة الدينية عن كل سؤال، وحتى تفسير الأحلام وبرامج الإعجاز العلمي للقرآن والسنّة.

3- عدم التأهيل الكافي لبعض المتصدرين للإفتاء بسبب قصور التكوين العلمي وضعف المناهج الدينية، خصوصاً تلك المناهج التي تتبنى رأياً فقهياً أحادياً منغلقاً، مما يجعل متلقيه يسارع إلى إصدار فتاوى تكفر المخالفين له بمجرد أن لهم رأياً مخالفاً لرأيه في قضية من القضايا، ويذكر على سبيل المثال هنا فتوى الشيخ صالح اللحيدان بجواز قتل أصحاب الفضائيات التي تبث «الخلاعة والمجون» وفتوى الشيخ عبدالله الجبرين بجلد الكتّاب والصحافيين المتطاولين على انتقاد العلماء، وفتوى قتل «ميكي ماوس» وفتوى إرضاع الكبير، وفتوى زواج البنت وهي في التاسعة، وغيرها من الفتاوى التي كفّرت بعض الكتّاب والصحافيين، ويدخل في هذا الباب- أيضاً- تأثير التوجه السياسي والإيديولوجي على المفتي، فقد يكون المفتي مؤهلاً علمياً ومعرفياً إلا أن «التسييس» و«الأدلجة» آفتان منتشرتان، ابتلي بهما طائفة من المفتين المنتمين إلى أحزاب وجماعات سياسية ودينية، وهنا نذكر فتاوى طائفة من العلماء اجتمعوا في بغداد وأيدوا احتلال الكويت وأصدروا فتوى عدم جواز الاستعانة بقوات أجنبية لتحرير الكويت، وكذلك نذكر فتاوى مقاطعة البضائع الأميركية مع أن الضرر الأكبر يقع على الوكيل المحلي وعلى تشريد آلاف العمال في تلك الشركات، وعلى الاقتصاد الوطني نفسه.

وفي الساحة الكويتية حرب فتاوى شراء مديونيات المواطنين، هناك فتوى بعدم جواز إسقاط المديونيات لعدم جواز شراء دين بدين، وأفتت دار الإفتاء المصرية أخيراً بعدم جواز الانتماء إلى الجماعات التي تنتهج نهجاً عسكرياً وسياسياً، وقد أصبحت الحكومات اليوم مطالبة بالتدخل لاحتواء التداعيات التي أفرزتها تلك الفتاوى، وكان من أبرز التحركات عقد المؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها بمكة 17-12 يناير، بحضور 170 عالماً، وأصدر المؤتمر أول «ميثاق» للفتوى في التاريخ، مؤكداً حرمة تكفير المسلم، ومحذراً من الفتاوى الضالة المبيحة لدماء المسلمين، وأكد الميثاق شروط المفتي وأبرزها: «معرفة الواقع المعاش» ودعا إلى وضع «الفتاوى الجماعية في المقررات الدراسية، ودعا وسائل الإعلام إلى نشر قرارات «المجامع الفقهية» وفتاوى مؤسسات «الإفتاء» المعتبرة وعدم نشر الفتاوى الشاذة.

هذا المؤتمر خطوة مهمة لكنها غير كافية، لأن القضية أعمق من مساءلة الضوابط والفتاوى الجامعية، على أن الخطورة الأبرز مشروع القانون المطروح على البرلمان المصري بتجريم الإفتاء من دون رخصة، وقد وافق الأزهر عليه، لكنه أثار ردود فعل متناقضة، وكانت حجة المعارضين أن القانون سيكبل ألسنة الذين يقولون كلمة الحق، وقد عقدت نقابة الصحافيين ندوة حاشدة بمشاركة عدد من نجوم الإفتاء في الفضائيات، وشهدت جدلاً ساخناً لكن المؤيدين يقولون: إنه لا يجوز لغير المؤهلين علمياً أن يتصدوا لهذه المهمة الجليلة، وأن البلبلة التي يعيشها الناس، سببها أصحاب الفتاوى عبر الفضائيات من الذين لم يحصلوا على قسط كاف من العلوم الشرعية، وقد اتخذوا الدين وسيلة للتربح والثراء والشهرة.

واضح من هذا الجدل حجم الإشكاليات التي تثيرها قضية الفتاوى المعاصرة، ويبدو لي أن هؤلاء الذين يهدفون إلى تقييد الفتاوى، ووضع الضوابط المشددة على أصحابها، إنما ينطلقون من مفهوم ضيق، ويتصورون أنه لو استطاعوا قصر الفتاوى على أهل الفتوى «الثقات» الذين استجمعوا الشروط المؤهلة، فإن هذا كفيل بالحد من فوضى الفتاوى، وفي تصوري أن هذا الفهم والمنطلق غير سليم، وذلك بسبب بسيط هو أن معظم الفتاوى التي سببت إشكاليات في مجتمعاتنا على امتداد السنوات العشر الأخيرة، كان وراءها، علماء ثقات لهم أتباع ومريدون وصحف وفضائيات روجت فتاواهم بأكثر من ترويجها لفتاوى الدعاة «الهواة»، مثل فتاوى الجهاد، والتكفير، ومنع قيادة المرأة، وإباحة المسيار، وتحريم الأغاني والموسيقى... إلخ.

في تصوري أن الحل الجذري لإشكالات الفتاوى لا يكون بالمنع والتقييد، إنما بإجراء واحد وحاسم هو صدور تشريع يعطي الناس حق مقاضاة المفتي إذا تضرروا من فتواه.

* كاتب قطري

back to top