فوضى الفتاوى: ما الحل؟!
![د. عبدالحميد الأنصاري](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1555928789945225900/1555928807000/1280x960.jpg)
أتصور أن هناك «3» تطورات طرأت على الساحة، وأفرزت تلك النتائج السلبية وهي: 1- اشتداد الطلب المجتمعي على سوق الفتاوى بكل أشكالها وتنوعاتها، وزيادةالتنافس عليها وفي كل القضايا المجتمعية: السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية حتى وصل الأمر إلى طلب الفتاوى في ميادين طبية وعلمية دقيقة، ولاشك أن الفضائيات الحديثة وشبكة الإنترنت الطارئة تلعبان دوراً بارزاً في هذا الترويج بسبب المكسب المادي السهل.2- الشهرة الجماهيرية أو النجومية الإعلامية وما يترتب عليها من امتيازات مادية ومعنوية، كانت من أسباب إقبال الكثيرين على برامج الإفتاء والأجوبة الدينية عن كل سؤال، وحتى تفسير الأحلام وبرامج الإعجاز العلمي للقرآن والسنّة. 3- عدم التأهيل الكافي لبعض المتصدرين للإفتاء بسبب قصور التكوين العلمي وضعف المناهج الدينية، خصوصاً تلك المناهج التي تتبنى رأياً فقهياً أحادياً منغلقاً، مما يجعل متلقيه يسارع إلى إصدار فتاوى تكفر المخالفين له بمجرد أن لهم رأياً مخالفاً لرأيه في قضية من القضايا، ويذكر على سبيل المثال هنا فتوى الشيخ صالح اللحيدان بجواز قتل أصحاب الفضائيات التي تبث «الخلاعة والمجون» وفتوى الشيخ عبدالله الجبرين بجلد الكتّاب والصحافيين المتطاولين على انتقاد العلماء، وفتوى قتل «ميكي ماوس» وفتوى إرضاع الكبير، وفتوى زواج البنت وهي في التاسعة، وغيرها من الفتاوى التي كفّرت بعض الكتّاب والصحافيين، ويدخل في هذا الباب- أيضاً- تأثير التوجه السياسي والإيديولوجي على المفتي، فقد يكون المفتي مؤهلاً علمياً ومعرفياً إلا أن «التسييس» و«الأدلجة» آفتان منتشرتان، ابتلي بهما طائفة من المفتين المنتمين إلى أحزاب وجماعات سياسية ودينية، وهنا نذكر فتاوى طائفة من العلماء اجتمعوا في بغداد وأيدوا احتلال الكويت وأصدروا فتوى عدم جواز الاستعانة بقوات أجنبية لتحرير الكويت، وكذلك نذكر فتاوى مقاطعة البضائع الأميركية مع أن الضرر الأكبر يقع على الوكيل المحلي وعلى تشريد آلاف العمال في تلك الشركات، وعلى الاقتصاد الوطني نفسه.وفي الساحة الكويتية حرب فتاوى شراء مديونيات المواطنين، هناك فتوى بعدم جواز إسقاط المديونيات لعدم جواز شراء دين بدين، وأفتت دار الإفتاء المصرية أخيراً بعدم جواز الانتماء إلى الجماعات التي تنتهج نهجاً عسكرياً وسياسياً، وقد أصبحت الحكومات اليوم مطالبة بالتدخل لاحتواء التداعيات التي أفرزتها تلك الفتاوى، وكان من أبرز التحركات عقد المؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها بمكة 17-12 يناير، بحضور 170 عالماً، وأصدر المؤتمر أول «ميثاق» للفتوى في التاريخ، مؤكداً حرمة تكفير المسلم، ومحذراً من الفتاوى الضالة المبيحة لدماء المسلمين، وأكد الميثاق شروط المفتي وأبرزها: «معرفة الواقع المعاش» ودعا إلى وضع «الفتاوى الجماعية في المقررات الدراسية، ودعا وسائل الإعلام إلى نشر قرارات «المجامع الفقهية» وفتاوى مؤسسات «الإفتاء» المعتبرة وعدم نشر الفتاوى الشاذة.هذا المؤتمر خطوة مهمة لكنها غير كافية، لأن القضية أعمق من مساءلة الضوابط والفتاوى الجامعية، على أن الخطورة الأبرز مشروع القانون المطروح على البرلمان المصري بتجريم الإفتاء من دون رخصة، وقد وافق الأزهر عليه، لكنه أثار ردود فعل متناقضة، وكانت حجة المعارضين أن القانون سيكبل ألسنة الذين يقولون كلمة الحق، وقد عقدت نقابة الصحافيين ندوة حاشدة بمشاركة عدد من نجوم الإفتاء في الفضائيات، وشهدت جدلاً ساخناً لكن المؤيدين يقولون: إنه لا يجوز لغير المؤهلين علمياً أن يتصدوا لهذه المهمة الجليلة، وأن البلبلة التي يعيشها الناس، سببها أصحاب الفتاوى عبر الفضائيات من الذين لم يحصلوا على قسط كاف من العلوم الشرعية، وقد اتخذوا الدين وسيلة للتربح والثراء والشهرة.واضح من هذا الجدل حجم الإشكاليات التي تثيرها قضية الفتاوى المعاصرة، ويبدو لي أن هؤلاء الذين يهدفون إلى تقييد الفتاوى، ووضع الضوابط المشددة على أصحابها، إنما ينطلقون من مفهوم ضيق، ويتصورون أنه لو استطاعوا قصر الفتاوى على أهل الفتوى «الثقات» الذين استجمعوا الشروط المؤهلة، فإن هذا كفيل بالحد من فوضى الفتاوى، وفي تصوري أن هذا الفهم والمنطلق غير سليم، وذلك بسبب بسيط هو أن معظم الفتاوى التي سببت إشكاليات في مجتمعاتنا على امتداد السنوات العشر الأخيرة، كان وراءها، علماء ثقات لهم أتباع ومريدون وصحف وفضائيات روجت فتاواهم بأكثر من ترويجها لفتاوى الدعاة «الهواة»، مثل فتاوى الجهاد، والتكفير، ومنع قيادة المرأة، وإباحة المسيار، وتحريم الأغاني والموسيقى... إلخ.في تصوري أن الحل الجذري لإشكالات الفتاوى لا يكون بالمنع والتقييد، إنما بإجراء واحد وحاسم هو صدور تشريع يعطي الناس حق مقاضاة المفتي إذا تضرروا من فتواه. * كاتب قطري