Ad

يعتبر يوسف شاهين أهم مَن وضع السينما المصرية والعربية على خارطة الإبداع والثقافة في العالم. عبّر في كل مكان عن جوهر الإنسان، الذي شكل جزءاً أساسياً من قوّة إبداعه وآمن بأن هذا الجوهر واحد وإن اختلفت الظروف والأحوال والملابسات والأشكال.

بدأت سينما شاهين كنبت أصيل في السينما المحلية والعالمية، تنوّعت ثمارها تنوعاً مدهشاً، فقدم في أول أفلامه «بابا أمين»، في مطلع خمسينيات القرن العشرين، عملاً أخاذاً يتميز بجرأة درامية ورؤية تأملية فلسفية في الحياة والموت، أدى دور البطولة فيه حسين رياض، ثم «صراع في الوادي» أمتع الأفلام التي حللت مجتمع الإقطاع والطبقية الصارخة قبل ثورة 1952، متطرقا إلى الحكم بالإعدام على بريء للمرة الأولى في السينما العربية، وكان من بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف وعبد الوارث عسر. في «جميلة الجزائرية» حيّت السينما لدينا معركة المليون شهيد ضد الإحتلال الفرنسي الطويل بكل وحشيّته وبطبيعته الاستيطانية «الإحتلالية»، على نحو ما رأينا في جنوب إفريقيا وما زلنا نرى في فلسطين، وأدت ماجدة دور البطلة الفدائية الجزائرية الشابة «جميلة بوحريد» وما زال الفيلم باقياً ومؤثراً في ذاكرة السينما ووجدان الشعب العربي. وستظل رائعته «الناصر صلاح الدين» من كلاسيكيات السينما المصرية العربية، جمعت بين النضج الفني والجمالي وبين تجسيد رؤية تؤمن بوحدة الأمة وعروبتها. أدى أحمد مظهر دور القائد القومي التاريخي صلاح الدين الأيوبي، وصوّر شاهين مشاهد ممتعة فنياً بينه وبين الملك الصليبي، ريتشارد قلب الأسد، الذي جسّده حمدي غيث باقتدار.

تصل المرحلة الأولى من مراحل سينما شاهين (استمرت على مدى عقدي الخمسينيات والستينيات) إلى قمتها بفيلم «الأرض» (1970)، يقدّم فيه، عبر بناء درامي متماسك رصين ومنهج واقعي بالغ الإتقان والرهافة، رؤية لذروة تمسّك الفلاح البسيط بالأرض والحق الأصيل. لا يتضمن الفيلم رؤية لحال الأرض والفلاح والوطن في مصر قبل ثورة 1952 فحسب، إنما هو رسالة إلى الحاضر والمستقبل أيضاً، وتجسيد للحق العربي والأرض وحتمية الكفاح في سبيلهما، ليبقى الفلاح المصري البسيط العظيم «محمد أبو سويلم»، أدى دوره محمود المليجي، من النماذج البشرية الخالدة في الفن السينمائي خصوصاً والدرامي عموماً التي لا تنسى وتشير وتلهم باستمرار.

قدّم شاهين في «الأرض» بناء درامياً شاهقاً، زاخراً بشخصيات حية نابضة وبأحداث متدفّقة منتظمة في إطار واقعي، وهو لا يتخطى الواقعية بصورة كاملة في أعماله التالية، إنما يضفي عليها لمسات أو مساحات من تجديد واضح. بعد «الأرض»، يدخل مرحلة جديدة بفيلمي «الاختيار» و»عودة الإبن الضال» وسيرته الذاتية التي تعد أهم سيرة ذاتية لمخرج في السينما العربية حتى الآن.

في «الاختيار» (1971)، يتجه شاهين إلى الدراما الأكثر تركيباً وتشابكاً، وإلى تأمل في موضوع اجتماعي وسياسي ونفسي. لعل «الاختيار» وبعده «العصفور» يمثّلان ثنائية تعبّر عن رؤيته في أعقاب نكسة يونيو 1967، ليطوّر تلك الرؤية ويقدّمها في «عودة الابن الضال» (1976)، ثم انكسار تلك المسيرة في أواسط السبعينيات. وعلى الصعيد الفني والجمالي، جسد الفيلم الثاني صيغة أطلق عليها «مأساة موسيقية»، إذ أدخل الغناء والموسيقى والإستعراض في نسيج الدراما، وكان الفيلم تقديماً رائعاً لمطربة جديدة من طراز رفيع وخاص هي ماجدة الرومي.

أبدع شاهين صياغات واجتهادات فنية للتعبير عن الوطن والعالم (العولمة، الإرهاب، الحجر على الآراء، تفاعل الحضارات أو تصادمها...)، في أفلام مثل «المصير»، «الآخر»، «هي فوضى؟» أحدث أفلامه الذي لقي إقبالاً جماهيرياً غير مسبوق في مسيرته.

شهدت المرحلة ذاتها إبداعاً من نوع فريد في السينما العربية، وهو إنجاز أول سيرة ذاتية في السينما المصرية والعربية وأهمها، تروي تجربة مخرج سينمائي في الحياة والفن، عبر أربعة أجزاء بدأت بـ «إسكندرية ليه» ( 1977)، ثم «حدوتة مصرية»، «إسكندرية كمان وكمان»، «إسكندرية ـ نيويورك».

تلك الأعمال رؤية رحبة للحياة والإنسان ومسيرة الوطن، انطلاقاً من الذات ومن تناول، أو تأمل، السيرة بصدق وشجاعة أدبية نادرين! عاش شاهين حياته وفنه بجدية، ولم يدخر جهداً، للإجادة والتجديد، لذلك أصبح مبدعاً رائداً وفريداً، وصارت السينما المصرية والعربية.. في العالم أجمع، تعني أول ما تعني «سينما شاهين».