فلسطين... واستلهام التجربة الجنوب إفريقية
![صالح بشير](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1488283965408028300/1488283965000/1280x960.jpg)
وقد وجدت تلك الغلبة الأخلاقية تجسيدها المُشرق في نيلسون مانديلا، الذي حاز سلطة اعتبارية خارقة، كانت كفيلة بنسف سلطة خصومه العنصريين، المدججة بأسباب القوة المادية كلها، بما فيها السلاح النووي.هنا يقع مكمن نموذجية تجربة التحرر الجنوب إفريقية أسوة قد تكون ذات فعالية أو قد تكون قابلة للتفعيل على الصعيد الفلسطيني، على وجه التخصيص، إذ بين القضيتين أواصر تشابه ووشائج تماثل متعددة وأساسية، لعل أهمها أن الأمر يتعلق في الحالتين بظاهرة اغتصابية قصوى، نافية للحقوق الأولية أو الأساسية، ما قبل السياسية، هي من مقوّمات الوجود الإنساني في صيغته الخام إن جازت العبارة. بل إن الحالة الاغتصابية الإسرائيلية أفدح من نظيرتها الجنوب إفريقية السابقة شناعة، فحيث اكتفى عنصريو جنوب إفريقيا بفرض غلبة، وإن على نحو راديكالي مادام أنها قامت على نفي مبرمٍ للمساواة وعلى نكران الحقوق المترتبة عليها كلها، فإن الحركة الصهيونية ذهبت إلى أقاصي أبعد شأواً من ذلك، إذ عمدت إلى اجتثاث شعب، فلم تقنع بجحود ينال من حقوقه يُبطلها، ولكنها حرمته من مجرد الوجود المادي. لكل ذلك، يبدو استلهام النموذج الجنوب إفريقي أمراً مشروعاً، إذا ما عنى «الارتقاء» بالمسألة الفلسطينية من مسألة تحرر وطني شأن عشراتٍ نظيرة لها في الماضي القريب للعالم وفي حاضره، نحو طرح يستوعب خصوصيتها أو فرادتها، ويفلح في إحلالها منزلة المسألة الضميرية الإنسانية الكبرى، أسوة، تحديداً بما حصل لقضية جنوب إفريقيا.ما لا شك فيه أن في عناصر وحيثيات ملف القضية الفلسطينية ما يرشحها إلى احتلال تلك المنزلة، غير أن بلوغها يتطلب جهداً وإبداعاً يفوقان بكثير ما استلزمته الحالة الجنوب إفريقية، وذلك لأسباب متعددة وجوهرية.أول تلك الأسباب، أن المشروع الصهيوني، المتجسد في الدولة العبرية، لا يزال يحظى، بالرغم من ارتكاباته المعلومة، بمشروعية أخلاقية، في نظر الرأي العام العالمي أو سواده الأعظم أو فئاته النافذة التي تزعم «النطق بالحق»، وذلك على العكس من نظام الفصل العنصري السابق، الذي كان قد فقد مشروعيته قبل عقود من إطاحته. تلك حقيقة يتوجب علينا الإقرار بوجودها، والتعامل معها بصفتها تلك، بصرف النظر عن مدى قبولنا لها من عدمه. وأما السبب الثاني، فهو أن العنصرية حيال السود، على خلاف معاداة السامية، لم تكن يوما شأنا مركزياً في التاريخ الأوروبي. إذ لم تعرف القارّة القديمة الرّق إلا في مستعمراتها، لا في بلدانها الأصلية، وظل ذلك الهاجس هامشي الحضور في وعيها، سُهل عليها التحلل منه وإدانته، بـ«التخلص» من إمبراطورياتها وإدانة ماضيها الاستعماري. صحيح أن هنالك استثناءً هو ذلك الأميركي، ولكن الولايات المتحدة طوت صفحة التمييز العنصري، أقله على الصعيد الرسمي والقانوني، منذ ستينيات القرن الماضي (حركة الحقوق المدنية)، حتى أنها ما عادت تستنكف عن ترشيح أسود، هو باراك أوباما، لرئاستها. الوضع مختلف تماماً، بطبيعة الحال، بالنسبة إلى موقع معاداة السامية في التاريخ الغربي. فهي كانت فيه قضية مركزية، لاهوتية وفكرية وسياسية واجتماعية، لم يُصر إلى تذليلها أو إلى تجاوزها حتى يومنا هذا. كانت إشكالاً دينياً عندما كان الدين قوام المجتمع (في العصر الوسيط)، وقومياً عندما تشكلت الأمم الحديثة، ومواطنيّاً لدى قيام الديمقراطيات وتأسسها على علاقات الأفراد. لذلك كانت الحركة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل على أرض الغير، «حلا» لمشكلة غير قابلة للحل على الصعيد الغربي، الذي بادر إلى إخراجها من حيزه، ونسب إلى ذلك الفعل تسويغاً وفضيلة أخلاقييْن. فكيف السبيل، والحالة هذه، إلى وصم الحالة الإسرائيلية بالشين، كما حصل مع نظيرتها الجنوب إفريقية السابقة؟ ما هو مؤكد أن مشهدة الفظاعات التي ترتكبها الدولة العبرية لا تكفي، بالرغم من أهميتها البالغة، وأن الأمر يتطلب جهداً وفكراً في ابتداع وسائل تحقيق ذلك الهدف.* كاتب تونسي