أوباما يخرج إلى العالم

نشر في 24-12-2008
آخر تحديث 24-12-2008 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت سيحاول العديد من الناس تحديد الأولويات للرئيس باراك أوباما، ولكن من المؤكد أن شخصاً واحداً سيخلِّف أثراً عظيماً في هذا السياق. لقد خَلَّف جورج دبليو بوش إرثاً بغيضاً: أزمة اقتصادية، وحربين، وصراع ضد الإرهاب، ومشاكل في أنحاء الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم المختلفة. وإذا ما أخفق أوباما في إطفاء هذه الحرائق فستلتهم رأسماله السياسي، أما إذا اقتصر عمله على مكافحة الحرائق فسيرث أولويات بوش. إن الرئيس الجديد لا بد أن يتعامل مع الماضي وأن يرسم مستقبلاً جديداً في الوقت نفسه.

ستكون الأزمة المالية على رأس جدول أعمال أوباما، فهي النقطة التي تتقاطع عندها أولوياته الداخلية والدولية كافة. في الداخل سيكون لزاماً عليه أن يعمل على تحفيز الاقتصاد وتجنب الضغوط الحمائية، في حين يتعين عليه أيضاً أن يضطلع بدور قيادي في إعادة هيكلة النظام المالي العالمي. وسيكون التعاون مع الآخرين على قدر عظيم من الأهمية. والحقيقة أن قمة مجموعة الدول العشرين التي دعا بوش إلى انعقادها في شهر نوفمبر تشكل سابقة مفيدة في ما يتصل بتجاوز مجموعة الدول السبع سعياً إلى احتواء القوى الاقتصادية الناشئة مثل الصين، والهند، والبرازيل.

في المرتبة الثانية من الأهمية لا بد أن تأتي مسألة الحربين اللتين تخوضهما أميركا في الوقت الحاضر. لقد أسس أوباما حملته على وعدٍ بسحب القوات الأميركية المقاتلة (ولكن ليس القوات المشاركة في التدريب ومكافحة الإرهاب) من العراق بحلول منتصف عام 2010. والآن وقَّعَت إدارة بوش والحكومة العراقية على اتفاقية تقضي بسحب القوات الأميركية بحلول نهاية عام 2011. وستتوقف فعالية هذه الجداول الزمنية على الأحداث الجارية على أرض الواقع، بما في ذلك التسويات السياسية داخل العراق والحوار مع جيران العراق، ولكن الحس الواضح بالاتجاه قد تأسس بالفعل.

تبدو مسألة أفغانستان أشد صعوبة، وذلك نظراً لتجدد نشاط «طالبان» بمساعدة بعض الجماعات في باكستان. ولقد دعا أوباما إلى إرسال قوات إضافية تابعة للولايات المتحدة ومنظمة حلف شمال الأطلسي للمساعدة في تثبيت الموقف هناك. بيد أن وجود عدد كبير من القوات الأجنبية في أفغانستان من شأنه أن يزيد من حدة ردود الأفعال القومية بين الأفغان. ولا يجوز لنا أن نفتح لأنفسنا ببساطة طريقاً للخروج من الأزمة بقوة النيران. وسيكون المزيد من التدريب العسكري والشُرَطي للقوات الأفغانية، وإقامة الحوار السياسي داخل البلاد ومع الجيران، من أهم مكونات أي حل معقول.

أما الأولوية الثالثة فإنها تتلخص في ما أطلق عليه بوش على سبيل التضليل «حرباً عالمية ضد الإرهاب». سيكون لزاماً على إدارة أوباما أن تواصل الكفاح ضد تنظيم «القاعدة»، ولكن يتعين عليها أن تتخلى عن لغة الحرب. فمن غير المعقول أن نعلن الحرب على «تكتيك»، ولقد أثبتت التجربة أن هذا المصطلح لا يؤدي إلا إلى تعزيز السرد الذي يسعى بن لادن إلى الترويج له، وهو السبب الذي يجعل بريطانيا الآن حريصة على تجنب هذه العبارة. إن الاستراتيجية الناجحة في التعامل مع «القاعدة» تتطلب تعاوناً وثيقاً على المستوى الاستخباراتي مع البلدان الأخرى، وانتهاج سياسات قادرة على حشد الدعم من جانب الرأي العام في البلدان الإسلامية.

يمثل الشرق الأوسط المجموعة الرابعة من الأولويات الـمُلِحَّة. فقد نجحت إيران حتى الآن في تخصيب القدر الكافي من اليورانيوم لإنتاج (من حيث المبدأ) قنبلة نووية واحدة. ورغم ذلك فما زال الوقت متاحاً لعرض مبادرة دبلوماسية تشارك فيها أوروبا، وروسيا، والصين. ونظراً لعدم جاذبية الاختيار بين توجيه ضربة وقائية إلى إيران أو السماح للسلاح النووي الإيراني بزعزعة الاستقرار في منطقة الخليج، فقد تعهد أوباما بإدارة حوار دبلوماسي واسع النطاق مع إيران ومن دون الشروط المسبقة التي كَـبَّل بها بوش نفسه.

ولكن الدبلوماسية الناجحة تتطلب إصلاح العلاقات مع روسيا أولاً. ومن البنود المهمة أيضاً على قائمة الأولويات في ما يتصل بالشرق الأوسط دعم وتعزيز جهود بوش في التوصل إلى حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني قائم على وجود دولتين، وتشجيع الحوار الأولي بين إسرائيل وسورية.

ستنشأ أيضاً قضايا رئيسية في إفريقيا، وأميركا اللاتينية، وآسيا، وستتعاظم أهمية العلاقات مع هذه المناطق. ومما يدعو إلى التفاؤل أن أياً من بلدان هذه المناطق لم تتحول إلى كرات قدم سياسية في الحملة الانتخابية الأخيرة. وفي ما يتصل بسياسة التعامل مع آسيا، باستثناء كوريا الشمالية، كان الإرث الذي خلَّفه بوش أفضل كثيراً، حيث ترك علاقات طيبة مع البلدان الرئيسية في آسيا، مثل اليابان والصين والهند.

إن «عقيدة بوش» في شن الحروب الوقائية وفرض الديمقراطية القسرية، والتي اقترنت بأسلوب أحادي فج، كانت قائمة على تحليل معيب للقوى في عالم اليوم. والمفارقة المرتبطة بالقوة الأميركية هنا تتلخص في أن الدولة الأعظم قوة منذ أيام الإمبراطورية الرومانية عاجزة عن تحقيق أهدافها بالعمل بمفردها.

كان لانتخاب أوباما تأثير ضخم في ما يتصل باستعادة القوة الأميركية «الناعمة»، إلا أن أوباما سيحتاج إلى تبني سياسات تجمع بين القوة الصارمة والقوة الناعمة في استراتيجية ذكية أشبه بالنوع الذي يسَّر لأميركا الخروج من الحرب الباردة ظافرة. والحقيقة أن الوسيلة الأمثل للترويج للديمقراطية تتلخص في الاستعانة بالجاذبية الناعمة وليس القهر والقسر، ولا شك أن الأمر يتطلب الوقت والصبر.

وهنا يتعين على أوباما أن يعمل كقدوة. إن إغلاق معسكر الاعتقال في خليج غوانتانامو بكوبا من شأنه أن يرسل إشارة بهذا المغزى. في الوقت الحالي يستمع العالم إلى نداءات الديمقراطية التي يطلقها بوش باعتبارها حيلة استعمارية تمارسها المؤسسات الأميركية. يتعين علينا أن نُـقِلَّ من الحديث عن جعل العالم مكاناً آمناً للديمقراطية، ما لم نتحدث أيضاً عن جعل العالم مكاناً أمناً للتنوع الإنساني.

إن سياسة «الواقعية الليبرالية» لا بد أن تنظر إلى تطور النظام العالمي على الأمد البعيد، وأن تدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الدولة الأعظم قوة في النظام الدولي، من أجل تحقيق المصالح العامة العالمية- أو الأمور التي ترغب الشعوب والحكومات في مختلف أنحاء العالم في تحقيقها ولكنها تعجز عن تأمينها- كما فعلت بريطانيا في القرن التاسع عشر. يتعين على أميركا أن تعمل بالمثل على تعزيز الاقتصاد الدولي المنفتح والمنافع المشتركة (مثل البحار والفضاء والإنترنت)، وأن تلعب دور الوسيط في حل النـزاعات الدولية قبل أن تتفاقم وتتصاعد، وأن تساهم في تطوير القواعد والمؤسسات الدولية. والإشارات المبكرة الدالة على رغبة الولايات المتحدة في الاضطلاع بدور قيادي في التعامل مع قضية تغير مناخ العالم ستشكل بداية على قدر عظيم من الأهمية في هذا السياق.

إن الولايات المتحدة قادرة على التحول إلى قوة ذكية من خلال العودة إلى الاستثمار في المصلحة العامة العالمية. وهذا يعني دعم المؤسسات الدولية، والانحياز إلى قضية التنمية الدولية، وتعزيز الصحة العامة، وزيادة التبادل الثقافي، وصيانة الاقتصاد المنفتح، والتعامل بجدية مع قضية تغير المناخ. والحقيقة أن أعظم أولويات أوباما لا بد أن تدور حول البرهنة للعالم على أن أميركا قد عادت من جديد إلى مزاولة مهنة تصدير الأمل، وليس الخوف.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye، مساعد وزير الدفاع أثناء إدارة كلينتون، أستاذ بجامعة هارفارد

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top