Ad

إن تشكيلا اجتماعيا تاريخيا أوسع طاقة استيعابية مثل الوطنية والقومية هو ما من شأنه أن يهذب النزعات الاستبعادية المتأصلة بصورة حتمية في الدين، فيما من شأن التمركز حول الدين أن يثير النزعات هذه حتى ضمن المجتمع وضمن الدين نفسه.

سقط جمال عبدالناصر فصعد بعده بأقل من جيل نجم أسامة بن لادن، والموجة التي حملت الشيخ أسامة كانت حملت قبله الشيخ يوسف القرضاوي. إن الفكر الذي يتحدث اليوم عن «ملة ناجية» و«روافض»... ليس عاجزا عن توحيد العرب والمسلمين فقط، بل هو متولد بصورة مباشرة عن أزمة القيادة في مجتمعاتنا المعاصرة.

منذ السبعينيات، إذن، أخذت الحساسية السنية التي خسرت تشكّلها العروبي تجنح نحو التطرف، أو تستسلم للتطرف الذي كان نما في أوساط الإخوان المصريين في ظل الحكم الناصري نفسه. يشهد على ذلك التنظيمات الإسلامية جميعا، خصوصا «القاعدة» والتيارات السلفية الجهادية، لكن بما فيها الإخوان المسلمون ووسطيتهم المفترضة... فاعتدال الإخوان والشيخ القرضاي هو اعتدال ذاتي، فيما فكرهم ما قبل الحداثي والمنغلق دون الحداثة يحتفي بمثل أعلى أبوي، يتلجلج أمام المساواة بين المواطنين ويقيد النساء ويقمع الجنسية ويتشكك في الثقافة والإنسانيات والفن ولا يرتاح للعفوية والفرح، ما يعني أنه فائق التطرف بمقاييس العصر. وهو ما يدل في رأينا على فقد السنيين طاقة الهيمنة وانحباسهم في دائرة رد الفعل، ما يعادل قولنا إنهم تحولوا إلى طائفة، ولعلنا نستبق خلاصة هذا المقال بالقول إن الاعتدال السني الوحيد الممكن هو الذي لا يقوم على أرضية دينية، سنية، لا يسعها إلا أن تكون فئوية أو طائفية في مجتمعاتنا المعاصرة. وليست إلا صيغة أخرى للأمر نفسه أن نقول إنه ما من اعتدال ممكن دون نقلة كبيرة في الفكر الإسلامي، تفتحه على الحداثة (حرية الاعتقاد بخاصة) وتجرده من مطامحه السيادية، وذلك في إطار الدولة-الدول الوطنية القائمة.

ولا يبرهن المثال الإيراني على عكس ما نقول لأن الشيعية هي أساس القومية الإيرانية اليوم بصورة تفوق بما لا يقاس وضع السنية في الحركة القومية العربية. لقد استطاعت هذه، وبسبب تكوينها الأكثري ذاته (أكثرية العرب مسلمون سنيون، وأكثرية المسلمين من السنيين)، أن تتكلم بالأحرى على «الإسلام» لا على السنة. ورغم أن إيران وحركتها القومية الصاعدة تفعل الشيء نفسه اليوم، تتكلم أيضا على «الإسلام» لا على الشيعة، إلا أن إسلامها ذو تمركز شيعي وفارسي، وهنا نقطة قوته وضعفه في آن، نقطة قوته لأن المركز البشري والتاريخي والثقافي للكتلة الشيعية في العالم إيراني بلا منازع. وقد عزز من ذلك نظام صدام الذي جمع بين قومية عربية مجردة وطغيان أرعن وطائفية سنية، والذي أضعف النجف ورفع عتبة التماهي العربي للشيعة العراقيين... وكون إيران هي المركز الشيعي العالمي يحد إلى أقصى درجة من الاحتكاك بين الإسلام الشيعي والقومية الإيرانية على خلاف ما كانت الحال بين الإسلام السني المتعدد المراكز والقومية العربية (لقد شُكك في إسلام عبدالناصر والبعثيين، داخل مجتمعاتهم ومن قبل مراكز سنية عربية أخرى، السعودية بخاصة). بيد أن المركزية تلك هي أيضا نقطة ضعف الإسلام الإيراني لأن صفته الشيعية تحد من قدرته على الهيمنة في المجال الإسلامي العام. وإذا صح ما يقوله الشيخ عن حملات «تبشير شيعي» منظمة (مال ونفوذ سياسي ودبلوماسي وكادر بشري...)، فإنه مؤشر على قصور الإشعاع الذاتي للنموذج الإيراني لا على قوته.

والنتيجة البسيطة (والبديهية، عند التأمل فيها) التي تنبني على ما تقدم هي أن الوظيفة التوحيدية لـ«الإسلام» لا توجد إلا في صورة غير دينية، قومية أو وطنية، أما ما يمكن أن يوجد في صورة دينية فليس إلا سنة وشيعة... أي الانقسام المذهبي. إن تشكيلا اجتماعيا تاريخيا أوسع طاقة استيعابية مثل الوطنية والقومية هو ما من شأنه أن يهذب النزعات الاستبعادية المتأصلة بصورة حتمية في الدين، فيما من شأن التمركز حول الدين أن يثير النزعات هذه حتى ضمن المجتمع وضمن الدين نفسه.

ولو افترضنا أن الحكم دان للإخوان المسلمين مثلا في مصر، فمن المحتمل أن تتفجر تناقضات «الاعتدال» الإخواني، ويرتسم سريعا تياران متخاصمان: تيار وطني مصري ذو توجه إسلامي معتدل (على غرار الأساتذة الثلاثة، البشري وأبو المجد وهويدي)، وتيار أممي إسلامي متشدد لن تكون مصر غير ساحة لجهاده (يمثل عليه أيمن الظواهري)، ومن غير المحتمل أن تحول «وسطية» الشيخ دون هذا الانقسام.

وكنا في سياق آخر قلنا إن حكما إسلاميا في سورية هو وصفة محتومة للحرب الأهلية. ولو جنح بنا الخيال إلى حد تصور أمة إسلامية موحدة، وهذه طوبى الإسلاميين السياسية، فالأرجح أن تنقسم فورا ليس حسب الثقافات والأعراق واللغات فقط، إنما حسب المذاهب الدينية أيضا، فمن شأن فرض الدين عنصرا موحدا أن يدفع إلى توسل الدين ذاته عنصر تمايز ونزاع.

* كاتب سوري