في مركز دائرتين يعيش المبدع، صغراهما هي دائرة المكان بتراثه ولغته وأحداثه وملامحه الجغرافية، وهي الدائرة التي تمنح المبدع تجربته الحياتية ومعظم خبراته الشخصية، وهي في الوقت ذاته محاطة بدائرة أوسع وأعمق هي دائرة الثقافة والمعرفة التي تشحذ- كلما اتسعت وتوهجت- وعي المبدع وخياله وبصيرته وتشكل تجربته الثقافية التي تسهم في صقل وتجريد موهبته ورغبته في الاختلاف والانحراف عن المألوف والسائد وتقديم الجديد.

Ad

والمبدع الحقيقي يعرف أن الاستغناء عن إحدى الدائرتين يعني طمس الملامح وخنق الإبداع وتجفيف شلالاته وأنهاره، فالتجربة الحياتية وحدها لا تصنع مبدعا كبيرا كما أن الاكتفاء بدائرة الثقافة قد يفضي إلى شد كلام من الكلام، كما يقول أبو حيان التوحيدي، أو إلى الغرق في التقليد واستعارة أصوات الآخرين لنجد أنفسنا في النهاية أمام مبدع لا وجه له.

رغم أهمية وخطورة التجربة الثقافية وقدرتها على إطالة العمر الإبداعي للمبدع ومنحه أفقا تجربيبا لا حدود له، يبقى للتجربة الحياتية ثقلها وأهميتها باعتبارها منجم المبدع وكنزه، ومن ثم منبع التميز والخصوصية والفرادة، فهي تعني المكان بكل تراثه وقيمه وملامحه الخاصة، وحركة المبدع فيه وتفاعله معه، وتعني لغة هذا المكان وتراثه الشعبي وأحداثه وتاريخه وتحولاته أيضا.

وقد لاحظت في الأعوام الأخيرة سعي بعض الشعراء والمبدعين الشبان إلى تهميش تجاربهم الحياتية جرياً وراء الإثارة والاستفزاز وتقليد الآخر الغربي ناسين أن تهميش التجربة الحياتية ومعاناة الذات ومجمل خبراتها لا يعني سوى تداخل الوجوه وضياع عناصر التميز وتشابه الأصوات.

والمتابع للإبداع العربي والعالمي سيكتشف بسهولة أثر التجربة الحياتية في أعمال كبار المبدعين، وبوسعنا أن نتحسس هذا الأثر في الشعر العربي القديم والحديث، فالأسلاف سجلوا به وفيه أحداث زمنهم وحروبه بالإضافة إلى تجاربهم ومعاناتهم وملامح وأسماء الأماكن التي عاشوا وتجولوا فيها، ولو تأملنا شعر امرئ القيس أو طرفة أو الأعشى لاكتشفنا ولع هؤلاء الشعراء بالسرد وتوظيف التفاصيل ومجمل التجارب الشخصية، تماماً كشعرائنا المعاصرين، ومنهم صلاح جاهين، وعبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وأدونيس، وسعدي يوسف، ومحمد عفيفي مطر، ومحمود درويش بالإضافة إلى معظم شعراء السبعينيات. والجدير بالذكر أن درويش وشعراء المقاومة الآخرين قد ساهموا بأشعارهم في منح القضية الفلسطينية وهجاً وحضوراً دائما في الذاكرة العربية عندما استعادوا طفولتهم وتحدثوا في قصائدهم عن قراهم وأشجارهم ومدارسهم وحقول آبائهم ومنازلهم.

وتبرز التجربة الحياتية أكثر فأكثر في الأعمال القصصية والروائية، ويبرز المكان بجمالياته وخصوصيته لمنحنا قصص المدينة ورواياتها «نجيب محفوظ، وإدوارد خراط، وإبراهيم عبدالمجيد... وغيرهم» وروايات الصحراء «إبراهيم الكوني، وعبدالرحمن منيف» وقصص وروايات الريف «يوسف إدريس، وعبدالحكيم قاسم، وسعيد الكفراوي، ومحمد مستجاب، وفؤاد قنديل، ويوسف أبورية وغيرهم»، بالإضافة إلى قصص وروايات البحر خصوصاً أعمال الروائيين العالميين «همنغواي، وملفيل، وكونراد... وغيرهم».

كما يبرز أيضاً تأثير الخبرات الشخصية والمهنية في إبداع معظم الشعراء والروائيين وكتّاب القصة القصيرة، فمهنة الطب وراء ذلك الحس الإنساني العميق الذي يلون قصص تشيكوف، ويوسف إدريس، ومحمد المنسي قنديل، ومحمد المخزنجي وغيرهم، ومهنة الصحافة وراء سعي القاص الإيطالي دينو بوتزاتي إلى لغة بسيطة قادرة على الوصول إلى القارئ، وشعر صلاح عبدالصبور في دواوينه الأولى كان أيضا يسعى إلى الاقتراب من لغة الشارع بسبب مهنة الصحافة.

هناك أيضا أعمال إبداعية تتكئ على أحداث يصادفها المبدع في حياته اليومية، فالروائي البرتغالي جوزية سرماجو يحدثنا في كتابه «الذكريات الصغيرة» الذي ترجمه أحمد عبداللطيف ونشرته سلسلة الجوائز عن حادث دفعه إلى كتابة روايته الجميلة «كل الأسماء» قائلا: «وصلت أمي وأخواتي إلى لشبونة في صيف 1924 وتلك السنة في شهر ديسمبر مات أخي فرانسيسكو، كان عمره أربع سنوات عندما قضى عليه التهاب رئوي شعبي»، وفي منتصف الستينيات يحاول الكاتب الحصول على شهادة وفاة هذا الأخ، ويصدم عندما يكتشف خلو سجلات قريته والمدينة ودار المحفوظات والأرشيفات الرحبة لمقابر لشبونة من اسم وتاريخ وفاة أخيه الذي اعتبر من ثم حياً يرزق في كل هذه السجلات. «لم تنته قصة فرانسيسكو عند هذا الحد. بكل صراحة أعتقد أن رواية «كل الأسماء» ربما لم تكن لتوجد في حالتها هذه لو لم أسر منغمسا سنة 1966 فيما يحدث داخل سجلات المدينة» يقول ساراماجو الذي اتخذ فيما بعد من موظف دار المحفوظات بطلاً لروايته الجميلة يقيم في غرفة صغيرة ملحقة بالدار ويعايش فقط ليلا ونهارا أسماء الأحياء والموتى وهو يتحرك بسلمه بين الرفوف العالية باحثا في البطاقات والسجلات عن بيانات ما لشخص ميت أو حي ناسيا أن وراء أسوار دار المحفوظات شوارع وميادين تعج بالحياة... وهذا البطل هو في الواقع فرانسيسكو الميت، شقيق الروائي الذي يعيش فقط في السجلات كأحد الأسماء.

* كاتب وشاعر مصري