سلطتان بدل مقاومتين
يشبه قيام «حماس» باعتقال ناشطين من «حركة الجهاد الإسلامي» أطلقوا بضعة صواريخ على إسرائيل مظاهر كثيرة في سلوكيات «حزب الله» تنبئ بأن السلطة في نهاية المطاف هي مبتغى الأصوليات، وأن المقاومة ليست سوى ذريعة أو واحدة من الأدوات في أحسن الأحوال.ما عدا مما بدا حتى صارت «الجهاد» اليوم خارجة على القانون بينما كانت قبل أسابيع إبان العدوان شريكة في الدم والجهاد؟
واقع الأمر أن «حماس»، بدل أن تتوقف عن التلكؤ في تحقيق حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية بعد اعتراف بمسؤوليتها عن جرّ أطفال غزة ونسائها إلى فم الذئب الإسرائيلي، وبدل أن تُقِر بأنها عادت إلى النقطة الصفر في الصراع، حيث الحصار مستمر والقصف المتقطع قائم والحوار على أساس المبادرة المصرية واقع محسوس، فإنها تقوم بتكريس واقع سلطوي يقمع حتى الحلفاء، تحت شعار «التهدئة»، بعدما تيقّنت من كلفة الخيار العسكري وأدركت أن إعلان الانتصار عملة لا تقبضها سوى مهرجانات طهران. وهكذا، بعدما خططت بهدوء للفوز بالسلطة عبر صناديق الاقتراع، عادت فخططت للانفراد بها بقوة السلاح، وهي اليوم لا تخجل من فرض سيطرتها ولو على جزء من مشروع دولة، ولا تتردد في التمسك بمواقع السلطة حتى على الأنقاض، وعلى حساب مَن دفعوا الدم في مغامرتها الكبرى قبيل نهاية العام. لا عاقل يقبل بالعودة إلى الصواريخ ولغة القتل والدمار، لكن ما تفعله «حماس» يناقض المبدأ الأساس الذي قامت عليه، وهو رفض التسوية مع الدولة العبرية، واعتبار القوة سبيلاً وحيداً لاستعادة الحقوق، والحركة كبرت وتنظمت بفعل أدبيات التحرير «من النهر إلى البحر»، وتمتن عضدها بفعل «العمل الاستشهادي الجهادي» لتحرير فلسطين التي اعتبرتها جزءاً من «وقف إسلامي». فماذا تحقق من كل ذلك حتى تبرر وقف النار؟ ولماذا تبحث عن الفتاوى «تحت الطلب» التي تبرر التهدئة عشر سنوات وربما خمسين؟ أليس من أجل ممارسة سلطة طويلة الأمد سواء تحررت فلسطين أم بقيت تحت الاحتلال؟ أم من أجل أن تثبت لإسرائيل أنها قادرة على مجاورتها والتزام تعهداتها أفضل من سلطة محمود عباس بأشواط كونها تملك الأرض والقوة الكافية والتفويض؟ليست ممارسة «حماس» للسياسة والمقاومة استثناء لدى الأصوليات، فـ«حزب الله»، منذ نشأته حتى الآن، خطط لإقامة «المجتمع المقاوم» بقدر ما خطط للعمليات، واستعجل الانفراد بالمقاومة في موازاة إقامته بنى سياسية واجتماعية وتربوية متكاملة فرز بواسطتها أكثرية الشيعة عن الفضاء المشترك لسائر اللبنانيين، مؤمّناً قوة متجانسة ومتراصة يستطيع الانطلاق منها في مشروع الهيمنة على سائر الفرقاء. وهو إذ انتهت مهمة مقاومته مع الانتصار وتحرير الجنوب في عام 2000، رفض الانضواء في كنف الدولة وعمل على تحقيق جملة أهداف تصب كلها في خانة إحكام السيطرة على السلطة أو التحكم بها على أقل تقدير.واضح أنه بعد القرار 1701 الذي استدرجته «حرب يوليو»، لم تعد المقاومة المسلحة إلا واحداً من أهداف «حزب الله» بسبب الوقائع المستحدثة على الحدود ناهيك عن الأثمان، والاعتصام الذي تتوج بتوجيه السلاح إلى قلب بيروت في «7 مايو» شاهد على أن الرغبة في السلطة وتحقيق المكاسب في الداخل أضحيا البديل الواقعي المتاح، أما الإصرار على إبقاء السلاح في الجنوب والحفاظ على الهدوء في آن، فيمكن استثمارهما في رسالة إلى المعنيين بالتسويات مفادها أن هناك قوة فعلية قادرة على منع الانفلات وضبط حركة السلاح والتزام كلمتها إذا أزف موعد التعهدات.غير بعيد عن هذا السياق تأتي مطالبة الرئيس الأسد بأن يشارك «حزب الله» و«حماس» إلى جانبه في مفاوضات السلام، وهي رغبة لا تهدف إلى الاستقواء بأطراف إضافيين فاعلين فحسب، بل ربما أيضا إلى الإيحاء بأن المقاومتين تستطيعان أن تتصرفا كـ«نظامين» مسؤولين على غرار النظام السوري، ففي موازاة سلام سوري-إسرائيلي يكرر التزامات «فك الارتباط» الموقع في 1974 على جبهة الجولان، يمكن الإفتاء بهدنات في فلسطين ولبنان تضمن الأمن على الحدود، عنوانها التهدئة وعدم الاعتداء، وجوهرها سلم مديد مع الأعداء، وسلطة كاملة على المواطنين أو تسلط على النظام العام.