ليت جميع حكامنا المؤبدين وزعماء أحزابنا التوابيت يقتصرون في شعاراتهم ووعودهم لجماهير أمتنا المجيدة على وعد واحد يتمثل في عدم أكل لحم الفيل، ولأنّ الأطعمة على اختلافها، متاحة في الواقع دون لحم الفيل، فإننا سنحظى لأول مرة في التاريخ، بساسة لا يكذبون في وعودهم.

Ad

منذ أكثر من ألف عام كان العرب يروون القصص، لكنهم كانوا يسمونها أخبارا، غير عابئين بتطوير تقنياتها الفنية، فهي في تراكيبها تكاد تكون واحدة، لولا اختلاف الموضوعات، وذلك لأنهم لم يطلبوا من ورائها سوى الطرافة والغرابة والكفاهة، باعتبارها وسائل الترفيه الوحيدة المتاحة لسواد الناس المضغوطين بين مدينة خانقة يزحمها عسس الخليفة وجباته، وصحراء قاحلة تتحكم بها غزوات القبائل وهجمات الضواري.

وكانت تلك الأخبار تروى على أنها أحداث حقيقية وقعت لأشخاص حقيقيين، خاصة أن المصنفين هم رجال أفاضل لا ترقى إليهم شبهة الاختلاف والكذب. والحق أن كثيرا من تلك الحكايات يمكن قبوله على أنه حقائق بالفعل، لكن جانبا كبيرا منها أيضا لا يمكن لعاقل أن يسلم بصحة وقوعه، وحيث إنه لا يمكنه كذلك أن يُكذّب صاحب الخبر، فإنه سيحيله إلى الحذق وسعة الخيال... أي أنه سيدخله في دائرة الكذب الجميل الذي نسميه فناً.

ولعل من أكذب هذه الحكايات وأكثرها استغراقاً في اللامعقول، تلك الحكاية التي وردت في الجزء الثالث من «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» للقاضي المحسن بن علي التنوخي، وهي مروية عن الطبري عن جعفر الخلدي عن أبي إسحاق الخوّاص الصوفي.

يحكي ذلك «الخوّاص الصوفي» عن رحلة له في البحر مع جماعة من الصوفية فلما أوغلوا في الرحلة تحطمت السفينة، فركب بعض الناجين أخشابها فرمتهم إلى ساحل لا يعلمون أين هو ولا ما هو... وأقاموا أياماً لا يجدون ما يأكلونه، حتى أدركهم الهلاك، فاجتمعوا لينذروا الله على أنفسهم نذوراً إذا أنجاهم وخلّصهم من ذلك المكان. فنذر بعضهم أن يصوم الدهر، وقال بعضهم إنه سيصلي كل يوم كذا وكذا ركعة، وقال بعضهم سأدع الكذب ما حييت، وهكذا، إلى أن سئل الخوّاص عما يقول فقال: نذرت لله ألا آكل لحم فيل أبداً.

وعاب عليه الجماعة هزله في مثل هذا الموقف، فقال بصراحة: والله ما تعمدت الهزل، ولكني منذ بدأتم صرت أعرض على نفسي شيئاً أدعه لله عز وجل، فلا تطاوعني نفسي إلى غير هذا الذي تلفظت به، وما قلت إلا ما اعتقدته.

المهم أن الجماعة انتشروا يبحثون عن طعام، فوقعوا ويا للمصادفة الهندية! على فرخ فيل، فاحتالوا فيه حتى ذبحوه وشووه، ووقعوا فيه نهشاً، ودعوا الخوّاص لمشاركتهم فأبى، متعللاً بأنه قد تركه منذ ساعة لله، ولعل الله قد أراد هلاكه بهذا وهو راض بما قدره البارئ.

فلم يكن إلا ساعة، وإذا بفيل أقبل من الموضع الذي استخرجوا منه الفرخ، وهو ينعر وقد امتلأت الأرض بنعيره وشدة وطأته، وراح ذلك الفيل يتشمم الجماعة واحداً واحداً، ثم يشيل إحدى قوائمه ويضعها على الرجل حتى يفسخه، فإذا علم أنه قد مات تركه إلى غيره، وهكذا فعل بالجميع، فلما وصل الدور إلى الخوّاص تشممه من سائر أعضائه، وبعد وقت من التفحّص لفّه بخرطومه ورفعه في الهواء وأقعده على ظهره، وجعل يهرول ويسرع إلى أن أضاء الفجر، فوقف وأنزله برفق إلى الأرض، ثم تركه وانقلب عائداً في الطريق التي جاء منها.

فلما بعُد الفيل، تأمّل الخوّاص موضعه فإذا هو على القرب من بلد عظيم من بلدان الهند، فقصده وفاز بالحياة، وعندما روى قصته للناس هناك زعموا له أن الفيل قد سار به في تلك الليلة الواحدة مسيرة أيام عدة!

انتهت الحكاية... ولنا الآن أن نأتي للنظر في عناصرها العجيبة: إن هذا الخوّاص الصوفي هو في نظري أكبر خبّاص، فعلى الرغم من صوفيته فإن نفسه لم تطاوعه على نذر العبادة التي هي هواه الطبيعي، ولم يجد في موقفه العصيب من شيء يتركه لربه إذا نجا إلا التعهد بعدم أكل لحم فيل!

أمّا جماعته- الذين تقربوا إلى الله بأفضل ما يتقرب به العبد- فلم يجدوا لطعامهم إلا ابن الفيل!

وأما الفيل الأب- أو الأم- فقد كان من حقه أن يثأر من آكلي ضناه... لكنه بالغ كثيراً في إكرام ذلك الخوّاص الخبّاص، وقد كان يكفيه أن يتركه ليموت في موضعه أو ليجد من رحمة البارئ ما ينزل عليه من السماء دجاجة مشوية... نظير نذره السخيف.

إنّ ذلك الفيل المنتقم، تحول في لحظة واحدة من قاتل إلى راهب في إرسالية خيرية، ومن فيل إلى طائرة كونكورد... وهي معجزات لا سبب لها ولا ضرورة إلا إنقاذ ذلك الخوّاص البهلوان!

هناك فائدة واحدة يمكن أن نستخلصها من هذه الحكاية المثقلة بالدسم... وهي تختص بنوع النذر الذي نذره ذلك الصوفي... إذ حصر كلّ وعوده لله في امتناعه عن أكل لحم الفيل.

ليت جميع حكامنا المؤبدين وزعماء أحزابنا التوابيت يقتصرون في شعاراتهم ووعودهم لجماهير أمتنا المجيدة على وعد واحد يتمثل في عدم أكل لحم الفيل، ولأنّ الأطعمة على اختلافها، متاحة في الواقع دون لحم الفيل، فإننا سنحظى لأول مرة في التاريخ، بساسة لا يكذبون في وعودهم، أما إذا أراد الله ألا يتوافر طعام سوى لحم الفيل، فإنهم سيموتون جوعاً، وعندئذ سنسعد بالتخلّص منهم سلمياً إلى الأبد!

* شاعر عراقي