116 سنة مرت على انعقاد الجلسة السابعة والأخيرة من جلسات "مجمع البكري” أول مجمع للغة العربية تشهده بلادنا، 116 سنة مرت على الخطوة الهائلة التي قطعها نفر من علماء العربية، لم يكتفوا بتأمل أحوال أمتهم وقراءة أزمتها على نحو صحيح، بل تحملوا ـ بشجاعة ـ مسؤوليتهم نحو إصلاح الأحوال والخروج من الأزمة، وإذا كان الزمان قد طوى صفحة "مجمع البكري” فإن الحلم الذي نبه رجال المجمع أمتهم إليه قد أصبح واقعاً، والإنجاز الذي سعوا إليه قد تحقق.

Ad

سبتمبر (أيلول) 1892، تاريخ ربما يبدو بعيداً، لكنه شهد حدثين موصولين بزماننا يقربانه إلينا، ففي ذلك التاريخ صدر العدد الأول من مجلة "الهلال” على يد منشئها الأديب المؤرخ "جرجي زيدان”، وفيه أيضاً تأسس في القاهرة أول مجمع للغة العربية، أو "مجتمع اللغة العربية” كما أسمته "الهلال”، الذي انطلق من مقره في بيت السيد "محمد توفيق البكري الصديقي” نقيب الأشراف وشيخ مشايخ الطرق الصوفية بحي "الخرنفش”، أحد أحياء القاهرة القديمة، وكان من أعضائه: الإمام محمد عبده، والشيخ محمود محمد الشنقيطي، والشيخ طنطاوي جوهري، والأديب حفني ناصف، والأديب محمد المويلحي. والشيخ حمزة فتح الله، والشيخ حسن الطويل، ومحمد بيرم، ومحمد عثمان جلال، ومحمد كمال، ويبدو أن هذه الكوكبة كانت تدرك تماماً أية مهمة تقف أمامها وأي عبء تضطلع به، فقد شهدت الجلسة الأولى اتفاق الحضور على إنشاء "هيئة تقوم على حماية العربية والمحافظة عليها”، كما وضع الأعضاء لمجمعهم لائحة تنظم شؤونه، وانتخبوا "محمد بيرم” سكرتيراً و”توفيق البكري” رئيسًا له، وقد تواصلت جلساته التي أخذت تنعقد منذ بدايته في سبتمبر (أيلول) 1892م ـ صفر 1310هـ إلى أن توقف بعد جلسته السابعة والأخيرة في الجمعة17 من فبراير (شباط) 1893 م ـ غرة شعبان 1310هـ، وهو توقف لم يعن إسدال الستار على المشروع الذي ظل حياً.

42 عاماً من العمل الدؤوب

تواصلت بعد ذلك محاولات إقامة "مجمع اللغة العربية”، وكانت أولاها في (1900م ـ 1318هـ) ـ أي بعد أقل من ثماني سنوات ـ حين أسس الشيخ محمد عبده جمعية إحياء العلوم العربية، التي كانت تطمح إلى النمو لتصبح مجمعاً، لكن لم يكتب لها البقاء طويلاً، إذ توقفت في نفس السنة التي بدأت فيها.

وبعد سبع سنوات أخرى (1907م ـ 1325هـ) كوَّن الأديب "حفني ناصف” ـ وهو والد الرائدة الشهيرة الأديبة "ملك حفني ناصف” المعروفة بلقب "باحثة البادية” ـ ناديًا برئاسته لخريجي "دار العلوم”، وعقد ندوة لم تستمر أكثر من أسبوعين لتناول شؤون اللغة، شارك فيها بالبحث والمناقشة كل من: طنطاوي جوهري، وأحمد فتحي زغلول ـ شقيق الزعيم "سعد زغلول”ـ وحفني ناصف، وحمزة فتح الله، ومحمد الخضري. وكانت هذه الندوة مفتتح نشاط الجمعية وختامه أيضاً.

وبعد تسع سنوات (1916م ـ 1335هـ) انضم إلى المجمعيين "أحمد لطفي السيد” الرجل الذي قدر للمشروع أن يتم على يديه، ففي تلك السنة أنشأ مجمع "دار الكتب”، الذي تم اختيار الإمام "سليم البشري” شيخ الأزهر رئيسًا له، وهو مجمع كان أوفر حظاً من سابقيه، إذ صمد لأكثر من عامين، وعقد 24 جلسة، قبل أن يتوقف عن العمل بعد اندلاع ثورة 1919م، وقد حاول "أحمد لطفي السيد” إحياءه مرة أخرى بعد أن انتهت أحداث الثورة بسنوات (1925م ـ 1344هـ) لكنه لم ينجح في مسعاه، ربما لأن "مجمع اللغة العربية” مشروع كبير بطبيعته؛ ما يفرض قيامه كهيئة مستقلة، لا كفرع تابع لهيئة أخرى هي "دار الكتب”.

على أية حال، ظل "لطفي السيد” وفياً للمشروع حريصاً على قيامه، حتى أتاحت له الأيام فرصة تحقيقه حين تولى "وزارة المعارف”، ونجح بعد جهد مضن في استصدار مرسوم ملكي في (13 من ديسمبر، كانون الأول 1932م ـ 14 من شعبان 1351هـ) بإنشاء مجمع اللغة العربية، محدداً أغراضه في: المحافظة على سلامة اللغة العربية، وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون ومستحدثات الحضارة، ووضع معجم تاريخي للعربية، ودراسة لهجاتها الحديثة، وإصدار مجلة للبحوث اللغوية.

مرسوم آخر

لكن المجمع لم يبدأ نشاطه فوراً، إذ احتاج الأمر إلى صدور مرسوم ملكي آخر في (6 من أكتوبر، تشرين الأول 1933م ـ 16 من جمادى الآخرة 1352هـ) بتعيين أعضاء المجمع العاملين، وكانوا عشرين، نصفهم من مصر، وهم: محمد توفيق رفعت، والحاخام حاييم ناحوم، والشيخ حسين والي، والدكتور منصور فهمي، والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ محمد الخضر حسين (وقد توليا مشيخة الأزهر فيما بعد)، والشيخ أحمد الإسكندري، وأحمد العوامري، والشاعر علي الجارم، ود.فارس نمر. وخمسة من المستشرقين هم هاملتون جب من إنجلترا، وأوجست فيشر من ألمانيا، ولويس ماسينيون من فرنسا، وكارلو ألفونسو نيلنو من إيطاليا، وفنسنك من هولندا، وبعد نحو ثلاثة أشهر عين مستشرق آخر بدلا من فنسنك هو: الأستاذ إينوليتمان من ألمانيا. وخمسة من علماء العرب، من سورية: محمد كرد علي مؤسس مجمع اللغة العربية بدمشق وأول رئيس له، وهو المجمع الذي أنشئ كثمرة من ثمار الثورة العربية في (24 من نوفمبر، تشرين الثاني 1919م ـ غرة ربيع الأول 1338هـ) وعبد القادر المغربي، ومن لبنان: عيسى إسكندر المعلوف، ومن العراق: الأب أنستاس الكرملي، و من تونس: حسن عبد الوهاب. واختير محمد توفيق رفعت رئيسًا للمجمع، والدكتور منصور فهمي أمينًا للسر. ثم افتتح المجمع رسميًا بعد 42 عاماً من بزوغ فكرته للمرة الأولى، وذلك في صباح الثلاثاء (30 من يناير، كانون الثاني 1934م ـ 14 من شوال 1352هـ) في حفل أقيم بدار المجمع التي كانت في شارع قصر العيني بالقاهرة قبل أن تنتقل إلى مقرها الحالي بالزمالك، حيث بدأ الأعضاء في وضع اللائحة الداخلية التي احتاج إتمامها إلى خمس وثلاثين جلسة. وما زال المجمع يواصل أعماله بالقاهرة حتى اليوم، بعد أن تعدلت لائحته ونظام عضويته، وشهد حكومات ونظماً متعاقبة، وأطلق عليه "مجمع الخالدين”، كما اعتبر رئيسا للمجامع العربية، مثل المجمع السوري بدمشق، والمجمع العلمي العراقي الذي أنشئ في بغداد 1947م. ومجمع اللغة العربية الأردني الذي أنشئ 1976، وكلها ينتظمها اتحاد واحد مقره القاهرة، هو اتحاد المجامع اللغوية العربية.