«تكلم دعني أرَك» هذا ما قاله سقراط لمحدثه.
ومعنى ذلك هو إخراج الصوت، الكشف عنه.. بالمنطوق من الكلام.. فضح الغائر في صمته.. الملتف في عزلته والمحصن في الكتمان. إخراج الصوت هو هتك المستور والمدفون في أغوار الشخصية. الصوت هو الحاسة القادرة على اختراق أعماق ما فينا.. على المخبوء منا.. المطوي تحت طيات الممطور في غياهب صمته.. ذلك المجهول من الآخر ومنا.. الصوت وحده دون كل حواسنا قادر على فضحنا.. على تظهير صورتنا الحقيقية.. تلك التي لا نريد فضحها.. حيث نحرص على تغيير وتلوين نبرات الصوت حتى نكذب أكثر.. نخفي ما لا نريده أن يظهر، ونعكس المرضي عنه. ولكن الصوت هو الجهاز الأكثر صدقاً فينا.. لا يفلح معه التعليم ولا التدجين، ومهما بلغت مهارة التدريب فلن تستطيع مداراة الصدق في الصوت وإعتامه. كل مدارس التدريب في التمثيل والإعلام لا تستطيع أن تخفي بصمة نبرات الصوت، التي هي هوية الشخص في صوته.. قد يستطيع الممثل أن يعكس لنا حالة فرح، أو حزن، أو سعادة الخ... لكن مستحيل أن يمحو الانطباع الذي يبثه صوته عنه، وعن الصورة المنعكسة له لدى المتلقي. ما يقوله الممثل نصدقه في إطار الشخصية التي ينقلها لنا، ولكن يبقى صوته وذبذبات هذا الصوت الجسر الذي يصلنا لمعرفة شخصيته أو إدراك جزء منها، وهو الانطباع الذي يتكون لدى المستمع أو المشاهد. وأنا من الذي يحكمون على الشخصية وعلى معرفة الآخر من سماع الصوت واقصد به الكلام.. فأنا مع مقولة سقراط «تكلم لأرَك» فحاسة البصر لديّ لا تنتبه ولا تعمل قبل انبعاث حاسة السمع.. ففي أي مكان أو لقاء أو تجمع، لا أرى أو أدرك من حولي قبل إنذار أذني. ومتى تنبهت أذني استدار راسي وتسلطت حواسي كلها على صوت متحدث ما، وانصببت على اكتشافه بكل مجسات طاقة الحواس.. لأن الصوت هو المثير فينا، وهو الناقل الحقيقي، لنا لانعكاس ذواتنا.. والأذن هي التي ترى حقيقتنا وهي أهم من البصر لأنها البصيرة.. لذلك الصوت لا يستطيع أن يهرب منها.. ولا من بصيرتها. ولعل الصوت والرائحة من أهم مقومات الإبداع الفنية.. وهما أساس ذاكرة الفنان، والمحرض على انبعاث الإشراق والإلهام.. فهل توجد حياة للإبداع لو لم يكن هناك صوت ورائحة تحاصر المبدع؟ تلك الأصوات التي تنادي من ظلامها.. وتلك الأصوات التي تنادينا من ماضيها.. والأصوات الآتية من مستقبلها.. وأصوات المجهول التي تحاصرنا. الصوت الراهب، والصوت الراجف، الصوت الضعيف، والصوت المتسلط والمتكبر، والذليل والجبان، والمنافق، والمراهن والموسوس، والمتردد، والواثق، والمطمئن والصادق، والمزيف والكاذب والمتحذلق، والمغرور، والمفتون. كلها هويات تبثها وتعريها نبرات الصوت وتكشف عن جذور الشخصية ونخاعها.. حتى إن أراد صاحبها عكس ذلك، فلن يستطيع مخادعة صوته.. وكأن الصوت هو حقيقة الدنيا.. جوهر كل الحيوات.. نسق الدوران والحركة.. أصل الكون.. أليس الصوت موجة؟ إذن لن يفنى وسيبقى في الأثير.. ليحمل ما مضى منا.
توابل - ثقافات
أليس الصوت موجة؟
07-07-2008