مصر و حزب الله : سيناريوهان للأزمة
ثمة سيناريوهان، يبدو ألا ثالث لهما، لمستقبل الأزمة المتفاعلة راهناً بين الحكومة المصرية و«حزب الله» اللبناني، على خلفية الإعلان عن كشف «خلية مصرية» تابعة لهذا الأخير، وإقرار السيد حسن نصر الله بأن المتهم الأول في تلك الخلية أحد عناصر الحزب، وكان «مكلفاً بتقديم الدعم اللوجستي للمقاومة في فلسطين».يقوم السيناريو الأول على فكرة أن الحكومة المصرية قد اختارت طريق التصعيد ضد الحزب وقائده وخوض معركة معه في الدبلوماسية والإعلام، للرد على تجاوزاته السياسية والإعلامية والقانونية، وربما باستخدام وسائل أخرى أكثر خشونة، كما ظهر من بعض التسريبات والتهديدات المتبادلة.
وإذ لم تتراجع الحكومة المصرية عن أي من اتهاماتها للحزب، بل واصلت الهجوم سواء عبر التصريحات السياسية المتتالية أو عبر الإعلام التابع، تتكرس فكرة أن السيناريو الأول جاهز للتفعيل، بشكل يؤدي إلى دخول الدولة المصرية والحزب اللبناني في عداء مفتوح، ستكون له انعكاساته ومفاعيله سواء على صعيد العلاقات بين الجانبين أو على الصعيد الإقليمي عموماً.شعرت الحكومة المصرية، وبعض الجسم السياسي والإعلامي والشعبي في مصر، بأن «حزب الله» أفرط في عدائه للسياسة المصرية، وقارب على انتهاج سياسات معادية للدولة المصرية، بل لمصر نفسها ككيان جغرافي وحضاري وتاريخي وإنساني مؤثر في المنطقة والعالم، وجدير بالتقدير والاعتبار، خصوصاً خلال أزمة العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006، التي اتخذت القاهرة خلالها موقفاً معارضاً لسياسات الحزب، واعتبرت أنه افتعل الأزمة وأعطى الإسرائيليين الذرائع اللازمة لشن العدوان لخدمة أجندات إقليمية.واستفحلت الأزمة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في ديسمبر 2008 ويناير 2009، حيث حاولت القاهرة لجم الحرب عبر الوسائل الدبلوماسية، وحافظت على سياستها الرامية إلى عدم فتح معبر رفح، بما لا يؤدي إلى انفصال غزة عن الجسم الفلسطيني تحت حكم «حماس»، ومن ثم نشوء إمارة إسلامية منفصلة على حدودها مباشرة، قد تؤثر في أمنها القومي من جهة، وتقسم الجبهة الفلسطينية من جهة أخرى، وتضيع مشروع الدولة المستقلة، الذي تراهن مصر كثيراً على إمكانية نجاحه، كحل للقضية الفلسطينية، يتسم بقدر من الواقعية والعدالة في آن. وخلال ذلك العدوان الإسرائيلي السافر كان «حزب الله» وإيران ومعظم السياسة القطرية وبعض السياسة السورية وكثير من الإعلام الفائر في المنطقة، الموجه وغير الموجه، وبعض قطاعات الشارع العربي تعتبر أن مصر «شريكة» في العدوان، أو «متواطئة ومتقاعسة» في أفضل الأحوال.ولم يوفر «حزب الله» أياً من الفعاليات التي يمكن من خلالها التأثير وإيصال الرسائل في إدانة المواقف المصرية، بشكل أدمى الحكومة وقطاعات أخرى غير حكومية، خصوصاً عندما انفلت في استهدافه للقاهرة، فخاطب الشعب والجيش، وحرضهما مباشرة على التمرد على الحكم، وهو الأمر الذي أُعتبر خطاً أحمر في مصر، وترك فجوة عميقة في النفوس والسياسات لا يسهل تجاوزها.باتت القاهرة متأكدة أنها محل استهداف وتربص مقيمين، وأن «حزب الله»، ومن ورائه إيران، يشنان حرباً قاسية عليها، وأن هجمات الحزب وجدت الكثير من الصدى في الإعلام والرأي العام والشارع العربي، بشكل أثر في إدارتها لسياساتها تجاه الأزمة، وأضر بصورتها الذهنية أمام شعبها وشعوب المنطقة، ووضعها في موضع الدفاع الدائم.شعرت القاهرة بالكثير من المرارة، وكان وقوع أفراد الخلية، وكشفهم في التحقيقات المبدئية عن أغراضهم وممارساتهم على الأراضي المصرية، بشكل يتناقض بوضوح مع اعتبارات السيادة والقوانين الملزمة والمرعية، كان بمنزلة رد فعل مؤثر يمكن أن يرد الكثير من الاعتبار، ويضع الأطراف الأخرى في حال الدفاع بعد هجومها الشرس، ويوفر للحكومة فرصة لالتقاط الأنفاس وغسل السمعة واستعادة بعض الجدارة والتقدير والاعتبار.لذلك يبدو أن هذا السيناريو يحقق الكثير من المصالح الراهنة للدولة المصرية، بحيث يمكن اعتماد فكرة التناقض الرئيس بين الحزب والقاهرة، وإدانة أفراد الخلية بأحكام مبرمة، وربما جر قيادات في الحزب إلى المحاكمة، واستهدافها بأحكام نافذة، ومطالبة الدولة اللبنانية بتسليم المدانين. يبقى أن الحزب في تلك الحالة سيكون مطالباً بشن حملة مضادة لتوضيح مواقفه، ومحاولة استعادة أعضائه من المتهمين الذين سيدانون، وهو سيعتبرهم «أسرى»، ولن يكون من المستبعد أن يخوض نزالات اعتادها كثيراً في محاولاته لاستعادة «أسراه»، وهو الأمر الذي قد يقود العلاقة بين الجانبين إلى مراحل خطرة في ساحة نزال مفتوحة ممتدة، تشهد وسائل أكثر خشونة وقسوة من تلك المستخدمة حالياً في أقنية الإعلام والقضاء والتلاسن الدبلوماسي. السيناريو الثاني يتعلق بحل سياسي للأزمة، باعتبارها سياسية أكثر من كونها أمنية، وبالنظر إلى أن تكلفة السيناريو الأول مرهقة وفادحة وغير محسوبة العوائد والتداعيات، ليس على الحزب فقط ولكن على الدولة المصرية أيضاً.نشر اللواء جميل السيد مقالاً في صحيفة «السفير» اللبنانية، في يوم 16 أبريل الجاري، كتبه من محبسه على ذمة قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، عن أزمة مشابهة وقعت بين «حزب الله» والأردن في العام 2002. قال اللواء السيد، الذي كان يشغل آنذاك منصب مدير الأمن العام في لبنان، إن السلطات الأردنية ألقت القبض على ثلاثة من أعضاء «حزب الله»، بتهمة محاولة إدخال أسلحة بطريقة غير مشروعة إلى الضفة الغربية من خلال الأراضي الأردنية، لاستخدامها في مقاومة اجتياحات رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون للأراضي الفلسطينية. وخلص إلى أن الأزمة كان من الممكن أن تتخذ منحى تصاعدياً، خصوصاً وقد استشعرت الحكومة الأردنية بأن «حزب الله» يستبيح أراضيها، وربما يورطها في أعمال تضر بالأمن القومي للبلد الذي وقع معاهدة سلام مع إسرائيل استرد بها أراضيه المحتلة، لكن جهداً سياسياً للحريري وللسيد نفسه معاً أثمر اتفاقاً بين الأردن و«حزب الله»، أبقى القضية بعيداً عن الإعلام، وسلم «المقاومين» الثلاثة للحزب، مقابل ضمانات تعهد بها نصر الله، وقد التزم بتلك التعهدات وفق ما أكد كاتب المقال.على أي حال، وأياً كان مدى صحة ما خلص إليه هذا المقال المهم، فإنه يطرح صورة للسيناريو الثاني الذي يمكن أن يحل الأزمة بين مصر و«حزب الله».ويبدو أن هذا السيناريو يقوم على احتواء التصعيد الإعلامي من الجانبين، ووقف النشر في القضية، وتقديم «حزب الله» اعتذاراً معلناً للحكومة المصرية عن «الإساءات» السابقة كلها، التي بدأت على هامش العدوان الإسرائيلي على لبنان، وشهدت ذروتها في العدوان الأخير على غزة، وبجانب هذا الاعتذار يقدم الحزب تعهدات بعدم تكرار هذه الممارسة، ويعرب عن صدق نواياه بتقديم معلومات استخباراتية متكاملة عن أبعاد تلك الشبكة وغيرها من الشبكات إن وجد. وتسلم الحكومة المصرية عناصر الحزب للسيد نصر الله، وتفتح قنوات تفاهم بين الجانبين، ويُحقن الخلاف الراهن إلى أجل.يبدو أن السيناريو الأول أسهل وأقل تطلباً للشجاعة والخيال والجهد السياسي خصوصاً من الوسطاء، لكن ما يجعل السيناريو الثاني أكثر قرباً من التحقق والتفعيل أنه أجدى للطرفين وللقضايا العربية عموماً وأكثر اتساقاً مع ما يدعيه الجانبان من حرص على القضيتين الفلسطينية واللبنانية.* كاتب مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء