ليست المنفعة فقط أساس الدين بل هي مقياس صحة الإيمان، فالإيمان النظري المجرد الذي لا نفع منه ليس إيمانا، مثل العلم الذي لا ينفع «أعوذ بالله من علم لا ينفع». وليست صحة الإيمان نظرية بل عملية تجسدها مقولة «لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه». الإيمان ليس أقوالا بل أفعال، ليس تصورات ونظريات بل عمليات وتحققات، ليست له صحة نظرية في ذاته بل صحته عملية «الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل».

Ad

وثلث آيات القرآن عن المنفعة تصب في هذا المعنى في خمسة أبعاد:

1- لا يكون الدعاء إلا لمن يجلب المنفعة ويدفع الضرر «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ». ويستهجن القرآن من يفعل ذلك لأنه خبل وجنون «قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا». وهو مناقض للعقل والحس السليم «يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ». وكيف يدعو الإنسان ما لا يسمع مثل الأصنام وهي لا تنفع ولا تضر «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ». وتزداد البلية ويعظم الكرب إذا دعا الإنسان ما يضره ولا ينفعه «يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ».

2- ولا تكون العبادة إلا لمن يمتلك المنفعة أو الضرر «أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئا وَلَا يَضُرُّكُمْ». وكيف يعبد الوعي الذاتي الشيء المصمت الخالي من الوعي؟ العبادة تراسل وحوار، تساؤل واستجابة ولا تكون بين وعيين «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ». ومرة تبدأ الآية بالضرر قبل النفع طبقا للمبدأ الأصولي «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح». ومرة تبدأ بالنفع قبل الضرر، «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ». ويتأكد نفس المعنى بملك النفع والضرر أي القدرة عليهما وليس مجرد النفع والضرر العرضيين «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّا وَلا نَفْعا».

3- ومع الدعاء والعبادة يأتي العلم. فمن مقتضياته عبادة من ينفع أو يضر، ومن الجهل عبادة من لا ينفع ولا يضر، والأخطر تعلم ما يضر وما لا ينفع «وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ». وهو الجهل المزدوج، العلم بإضرار النفس وليس بنفعها. فالعلم أساس الإيمان، والإيمان يقوم على العلم، وكلاهما يتفقان على استحالة عبادة من لا ينفع أو يضر، وبالأولى من يضر دون أن ينفع.

4- وكيف يعبد الإنسان ما لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، حجرا أصم؟ «قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعا وَلا ضَرّا». كيف يعبد الإنسان ما لا يستجيب له ولا يرد عليه سؤاله ولا يملك له ضرا ولا نفعا «أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّا وَلا نَفْعا». ولو اجتمعت الأصنام كلها فإنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا «وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّا وَلا نَفْعا» طبقا لقياس الأولى. كيف بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا أن يضر أو ينفع غيره؟

5- الله وحده هو الذي يملك النفع والضرر لخلقه وليس الإنسان «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعا وَلا ضَرّا إِلا مَا شَاءَ اللهُ». وتتكرر الآية مرة أخرى لتأكيد المعنى. ولا يملك الناس -حتى لو كان بعضهم لبعض ظهيرا- لأنفسهم نفعا ولا ضرا «فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعا وَلا ضَرّا». ويسأل القرآن إن كان هناك أحد يملك للبشر نفعا أو ضرا «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعا».

فإذا كانت المنفعة مقياس صحة الإيمان فإن الضرر مقياس بطلانه، فالإيمان إذن ليس خطابا في قنوات الفضاء، وليس دعوة نظرية وقولا بليغا مغلقا على ذاته عند الدعاة الجدد، صحته في منفعته، وبطلانه في ضرره، وكم من إيمان ضار عند المسلمين، وكم من إيمان نافع عند غيرهم.

* كاتب ومفكر مصري