تجد النخب السياسية والثقافية العمانية رداً جاهزاً على كل مأخذ يتعلق بافتقاد السلطنة لمجلس نيابي كذلك الذي يشغل الناس ويملأ الدنيا صخباً في الكويت، أو لتعبير إعلامي دولي يهز أصقاع الأرض كـ«الجزيرة» في قطر، أو لطفرة عقارية وسياحية وخدماتية مهولة كتلك التي تتفاعل في دبي.

Ad

صديق عماني أخذني مع زميل أميركي في جولة في العاصمة مسقط؛ بدأنا من الساحل حيث الفنادق الحديثة المتراصة في نظام وفن، مروراً بالطرق المشقوقة وسط الجبال المخضرة، وعطفاً على وسط المدينة، وأخيراً إلى الميناء حيث السوق القديم، وسور «اللواتية»، وعدد من الإخوة الشيعة يحتفلون بمولد الإمام الحسين بأهازيج هادئة، وصولاً إلى مسجد «الرسول الأعظم»، من دون أن تلمح شرطياً واحداً لإقرار الأمن، الذي تحسه في كل بقعة وكل آن. سألني الزميل الأميركي سؤالاً مباشراً: «من أين أتى العمانيون بهذا الرشد؟».

لا أعرف من أين أتى العمانيون بهذا «الرشد» حقاً، لكن هذا السؤال قادني إلى محاولة تحليل قدرة هذا البلد الملحوظة على اجتراح التقدم المسؤول والمحسوب من دون إثارة ضجيج أو افتعال شهرة وطلب رواج.

يبدو أن تلك السلطنة المفرطة في القدم والتاريخ المعز، والتي حصلت على استقلالها منذ منتصف القرن السابع عشر، قررت منذ خرجت إلى العالم في سبعينيات القرن الفائت أن تحتفظ بعوامل البقاء ولا تدلل عليه، وأن تنحو نحو التنمية ولا تتباهى بها، وأن تلعب أدواراً خليجية وقومية إيجابية وبناءة ولا تروج لها، وأن تكتفي من كل هذا الجهد بعائد تعرف قدره وحدها... الأمان والسلام واليسر وتفادي المخاطرة والمباهاة الفارغة.

ليست سلطنة عمان أغنى دولة خليجية؛ فإجمالي ناتجها المحلي لا يتجاوز الـ68 مليار دولار، لكن متوسط نصيب الفرد من هذا الدخل يضعها بين الدول الموسرة شعوبها، ويضمن لها دوراً حكومياً تنموياً يسد احتياجات مواطنيها الرئيسة، ويهيئ لهم سبل التعليم والطبابة والسكن والعمل، ولا يتركهم ضحايا للوفرة المفرطة التي تجلب الكسل والتخمة من جهة، ولا ينزع قدرتهم على الوفاء باحتياجاتهم الأساسية، فيقعوا ضحايا لفقر وقبيح من العادات من جهة أخرى.

تصدر سلطنة عمان ما لا يتعدى 600 ألف برميل يومياً، فيما يبلغ عدد سكانها نحو 3.3 ملايين نسمة، وهي أرقام تخرجها من صورة الدولة الريعية المعتمدة على عوائد تصدير سلعة واحدة، إذا ما قورنت ببعض شقيقاتها الخليجيات اللاتي يصدرن أضعاف ما تصدر من نفط، في ظل محدودية عدد السكان.

لكن السلطنة تعتمد على اقتصاد أكثر تنوعاً إذا ما قورن بدول خليجية أخرى، كما أن الإنسان العماني أيضاً يكاد يعيش نمطاً غير خليجي في كثير من مناحي الحياة؛ فتراه يعمل ويدرس في آن، أو يجمع بين عملين، أو يحاول الموازنة دائماً بين احتياجاته الأساسية وكرمه المعتاد في ظل دخل محدود ومعدلات تضخم تبلغ نحو 12%.

سياسياً؛ لا تدعي السلطنة الديمقراطية، ولا تباهي بمجلسي الدولة والشورى، والانتخابات المحدودة، والنساء اللاتي يشغلن المواقع الوزارية والقيادية، لكنها تمارس الديمقراطية بصور مقننة، ووفق سياسة يعرفها الجميع في هذه البلاد، وربما يؤمنون بجدواها، ويسمونها سياسة «الخطوة خطوة».

رفضت السلطنة مقاطعة مصر وقت أن قاطعتها الدول العربية جميعها نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وتحتفظ بعلاقات استراتيجية ببريطانيا والولايات المتحدة في كل الأوقات، وتربطها علاقات وثيقة بإيران، واستضافت معارضين يمنيين بعد حرب صيف 1994، وتمانع في بعض الخطوات الخليجية التي ترى أنها تتنافى مع مصالحها الوطنية كما تشخصها، وتقاطع بعض الاجتماعات العربية المهمة، أو تخفض تمثيلها في بعض القمم، أو تقرر فجأة أن تلعب دوراً مؤثراً ورئيساً لحل أزمة عربية ما. تفعل السلطنة كل هذا، وتتخذ كل تلك القرارات، وتنتهج هذه السياسات من دون أن تُخدم عليها إعلامياً بالقدر الكافي، ولا تجد نفسها في معرض تبرير أو تفسير عادة، ولا تتعرض لاتهامات بالغرور والصلف أو الانتهازية والنكوص، وهو أمر لا يجد تفسيراً كافياً سوى في حال الاتساق التي تجلل ممارساتها كافة.

يحلو للشبان العمانيين تبرير هدوء إيقاع الإعلام الوطني بمحدودية الزخم والصراع في مجتمعهم، وتفسير محدودية حركة الدبلوماسية الخارجية للدولة بحرصها على التحسب والحذر في محيط ملتبس وشائك، ورد الخطوات الديمقراطية المتأنية إلى ضرورة أن تسبقها تنمية بشرية أكثر رسوخاً واستدامة، ويعزون الارتفاع النسبي للأسعار مقارنة بالدخل إلى تأثيرات المحيط الغارق في الرفاهية والفوائض.

وتجد النخب السياسية والثقافية العمانية رداً جاهزاً على كل مأخذ يتعلق بافتقاد السلطنة لمجلس نيابي كذلك الذي يشغل الناس ويملأ الدنيا صخباً في الكويت، أو لتعبير إعلامي دولي يهز أصقاع الأرض كـ«الجزيرة» في قطر، أو لطفرة عقارية وسياحية وخدماتية مهولة كتلك التي تتفاعل في دبي، أو لدور سياسي محوري راسخ في الإقليم والعالم كذلك الذي تحظى به السعودية.

يرد العمانيون بأنهم لا يشعرون بأنهم فقدوا شيئاً ذا بال؛ ويراهنون على أن تلك الإشراقات قد تزور السلطنة يوماً، وأنها ربما ستكون أكثر رسوخاً واستدامة، لأنها ستجد مناخاً أكثر تسامحاً، وبنية اجتماعية غير متطرفة ولا مقسومة، وعوامل نمو قد تكون محدودة لكنها تتمتع بالبقاء، وحكماً قد يفتقد الطموح للقفزات الكبيرة في الجغرافيا والتاريخ، لكنه حتماً لا تنقصه الشرعية ولا الحكمة ولا الدهاء، وأخيراً وليس آخراً... إنساناً عمانياً قد يعوزه بعض الطموح والهمة، لكنه يتمتع بالكثير من التحضر والصلابة والرضا.

* كاتب مصري