تناول الدكتور إبراهيم عرفات في مقالته «عزيزي أستاذ الجامعة: قم بواجبك» «الوطن القطرية 16- 9» رسالة الجامعة وواجبات أساتذتها في معرض مناقشته لمقالة انتقدت وزير التعليم المصري لتصريحه بأن الجامعة ليست للسياسة، حيث أكد صاحب المقالة أن على الجامعة أن تشجع الطلاب على ممارسة السياسة.

Ad

علاقة الجامعة بالسياسة، موضوع قديم وإثارتها اليوم من قبيل «تفشي آفة التفكير الدائري في حياتنا العربية» كما قال «كاتبنا» في مقالته. يحدد «كاتبنا» رسالة الجامعة وأساتذتها في شرح المعرفة العلمية للطلاب، وتدريبهم على البحوث، وتوسيع آفاقهم بطرح القضايا ومناقشتها، ولكن: هل ينفصل أستاذ الجامعة عن قضايا مجتمعه؟ يجيب «كاتبنا القدير» بأن أستاذ الجامعة بشر يتأثر بما يجري في مجتمعه، ويسعى من خلال موقعه الجامعي إلى أن يؤثر فيه، فأمامه طلاب من مختلف طبقات المجتمع أتوا لكي يتعلموا، ولو علمهم بصدق لقام بواجبه تجاه مجتمعه، لكن بعض الأساتذة يتخطون الحدود بين مسؤولياتهم الأكاديمية ومواقفهم السياسية وآرائهم الدينية التي يفترض أن يحتفظوا بها لأنفسهم، ولكن أليس من حق الأستاذ أن يدافع عن مواقفه السياسية والأخلاقية؟ يجيب «الكاتب» بأن ذلك من حقه، لكن خارج الجامعة.

يؤكد «كاتبنا الفاضل»، أن أستاذ الجامعة ليس «واعظاً» أو «سياسياً» ويقول: إذا كان الطبيعي أن قضايا السياسة والدين والأخلاق تناقش كل يوم في الجامعة، إلا أن أستاذ الجامعة عليه أن يطرحها كموضوعات دراسية، ولا يقدمها كبرامج تبشيرية أو دعوية، فليس من واجباته، التسويق لموقف سياسي أو تفسير ديني بعينه، وإنما عليه أن يتعامل مع تلك القضايا بتجرد ونزاهة، لأن الجامعة ليست مكانا «لغسل» أدمغة الطلاب إنما لتدريبهم على قواعد «التفكير» العلمي، ولكن ما ذا لو تعارضت نتائج بحث مع انتماءات الأستاذ السياسية أو الدينية؟ فلو درب طلابه على تحليل مضمون الخطاب السياسي للإخوان، وجاءت النتيجة أن خطابهم متناقض، فعلى الأستاذ أن يعلن ذلك علماً بأنه قد يكون من مؤيديهم، طبقاً لـ«قل الحق ولو على نفسك» ولكن لماذا يحول بعض الأساتذة المنبر التعليمي إلى منبر سياسي ودعوي؟ هناك سببان: الأول انغلاق قنوات التعبير السياسي خارج الجامعة والثاني: أن رسالة بعض الجامعات فضفاضة تسمح بالترويج لأنشطة لا تمت للعمل الأكاديمي بصلة. «التسييس» آفة التعليم العربي الكبرى، والملازمة له على امتداد عقود طويلة، من قبل أنظمتنا الحاكمة، ومن الجماعات الأيدولوجية- القومية واليسارية والإسلام السياسي- المتحكمة في المناهج التعليمية عبر مراحل تاريخية مختلفة، بحيث أصبحت جامعاتنا كما يقول كاتبنا: تخرّج طلاباً لديهم أقل زاد من المعرفة وأكبر شحنة من الانفعالات. لقد شخّص الدكتور محمد جواد رضا- الخبير التربوي الكبير، آفة التسييس التعليمي في بحثه القيم «التربية وإعادة تشكيل الوعي العربي» وقال: إن هذه التربية ظلت طيلة الأعوام الثمانين الماضية، تربية مسيّسة ماضوية، فظل الماضي يشكل الحاضر، حتى صار يوحى للناشئة جيلاً بعد جيل أن الحاضر الحقيقي هو الماضي الذي تجب استعادته. وأضاف: وقد ظلت عملية التسييس حاكمة لعمل المؤسسة التربوية، وعندما وضعت «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» استراتيجية التربية «1977» وضعتها التزاماً سياسياً لأربع غايات هي مكافحة «التخلف والتجزئة والاستعمار والصهيونية» أي أن الغرض الأعلى من عمل المؤسسة التربوية ظل غرضاً سياسياً، هو خدمة «الثورة العربية» حتى وصل الأمر إلى أن يقول التربوي القومي الكبير «د.عبدالله عبد الدايم» «إن التربية العربية كانت عملية منظمة لاغتيال العقول والنفوس، وتعبئتها بما نشاء من أفكار واتجاهات وقيم، وتتجه بها إلى تقديس الماضي تقديساً صنمياً أقام حاجزاً منيعاً بين تجربة الأمة العربية الأسلامية الماضية وتجارب الأمم الأخرى». رسالة الجامعة، محسومة -عالمياً- في غايات ثلاث: التعليمية والبحثية والإنمائية، ومسؤولية الأستاذ الجامعية: الأمانة والقدوة والبعد عن التعصب والتحزب، والعقلية المنفتحة الناقدة. لكن «التسييس» حرّف رسالة الجامعة، وحول بعض أساتذتها إلى دعاة وسياسيين، اختطفوا المناهج، ولقنوا طلابهم أفكاراً حولت بعضهم لمتعصبين ناقمين على مجتمعاتهم وأنظمتهم السياسية، معادين لحضارة العصر، لكن «التسييس»، تحول إلى «ظاهرة» مهيمنة على كل المناشط المجتمعية الثقافية والإعلامية والدينية، وقد حلّل علي حرب في كتابه القيّم «أصنام النظرية» ظاهرة تحول المثقف إلى داعية ومناضل في معرض نقده لـ«تشومسكي» عالم اللسانيات المشهور الذي انقلب عن وظيفته الأساسية في إنتاج المعرفة إلى داعية ومبشر. يرى «حرب» أن الخلط بين منطق «النضال» ومنطق «المعرفة» هو الكارثة التي عرقلت كل المشاريع الفكرية العربية، بسبب طغيان صورة النبي والداعية والمبشر على عقول المشتغلين في ميادين العلم والبحث.ومما يؤسف له، أن ظاهرة «التسييس» طالت «بيوت الله» فاستغلت «منابرها» في غير أهدافها المشروعة، في الدعاء للمجاهدين في العراق وأفغانستان، وفي تحريض الشباب للقتال في العراق، ولم تتورع رموز دينية مشهورة من توظيف المنابر الدينية للترويج لأجندة سياسية ضيقة، وبث الدعوات الطائفية، وفي التحريض ضد الخصوم السياسيين، وتصفية الحسابات السياسية معهم عبر اتهامهم في وطنيتهم ومعتقداتهم بحجة أنهم «علمانيون» و«عملاء» يخدمون الأجندة الأميركية، ولم يتوانوا عن شن حملات الكراهية ضدهم، بل استباحة دمائهم. سينبري دعاة «التسييس» ويسارعون باتهامنا بأننا نردد مقولات علمانية «لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين» وهذه مغالطة مكشوفة إذ يدرك كل ذي عقل وبصيرة أنه لا منأى عن السياسة في كل مناشط البشر، إذ لا يستقيم أمرهم إلا بها، ولكن أي سياسة؟! وهل ما يمارسه هؤلاء الأيديولوجيون من استغلال انتهازي لمنابر بيوت الله، سياسة رشيدة؟! الفرق واضح بين «السياسة» بالمفهوم العام الذي يقصد به إصلاح أمر الجماعة والمجتمع، وبث القيم، وإصلاح ذات البين، والاهتمام بأمور المسلمين، وتنويرهم والارتفاع بوعيهم ودفعهم إلى البذل والاخلاص والتنمية والانتاج والتسامح ومحبة الآخرين و«التسييس» الذي ينتهك قدسية بيوت الله، والذي يمارسه بعض مشايخ الإسلام السياسي والجماعات السياسية الدينية مثل «حماس» و«حزب الله» حيث يستغلون المنابر الدينية في الشحن والإثارة والطعن في وطنية ودين مخالفيهم، ولعلنا لم ننس بعد استغلال المساجد في الترويج السياسي من قبل «حماس» و«فتح»! الإسلام لا ينفصل عن حركة المجتمع السياسية والاجتماعية، ومن لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، هذه مسلّمات، لكن ممارسات دعاة الإسلام السياسي في نقلهم الصراعات السياسية من الشوارع إلى المساجد، هي أبعد ما يكون عن تعاليم الدين، بل هي مما تأباه القيم الفاضلة والتقاليد المتوارثة.

ولن يتسع المقام -هنا- لبيان مظاهر وتجليات «التسييس» السيئة، وهيمنتها على الحياة العربية عامة، ويكفي أن نذكر هنا أن قطاعاً من الإعلاميين العرب تحولوا إلى دعاة ومناضلين ومبشرين في تجاهل لمهماتهم الأساسية في نقل الحقائق والمعلومات والبحث عن الأخبار في حياد وموضوعية، وإذ تحول هؤلاء من ناقلين للحقائق وباحثين عن الأخبار إلى مصلحين اجتماعيين، ومناضلين في قضايا الأمة! وهي قضايا من اختصاص الآخرين غيرهم.

حتى الآن، لا يفرق كثيرون بين «الانشغال» بالهمّ السياسي، الذي يقصد به الاهتمام بأمور المجتمع وقضايا الحرية والعدل والإصلاح والتنمية الشاملة و«الاشتغال» بالسياسة. «الانشغال» بهموم المجتمع، أمر مشروع، ومطلوب من جميع المواطنين باعتبار أن الجميع مطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كواجب اجتماعي عام، لكن «الاشتغال» بالأمور السياسية، يجب تركها للنخب السياسية والأحزاب السياسية العاملة في هذا الشأن، وفي إدراك الفارق بين «الانشغال» و«الاشتغال» بالسياسة، ما يحول دون توظيف «الديني» في خدمة «السياسي» وما يصحح الأوضاع الملتبسة.

* كاتب قطري