اتفاقية وادي سوات الباكستانية وتداعياتها على الشريعة و المجتمع

نشر في 23-03-2009
آخر تحديث 23-03-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري وقعت الحكومة المحلية للإقليم الشمال الغربي لباكستان اتفاقية «وادي سوات» مع «طالبان» الباكستانية في فبراير الماضي، وبموجب هذه الاتفاقية تلتزم «طالبان» بوقف القتال ضد الحكومة في مقابل الموافقة على تطبيق الشريعة الإسلامية- بحسب المفهوم المتشدد لـ»طالبان»- في مجالات القضاء والتعليم والإدارة كافة في مناطق الوادي.

يرى المراقبون أن هذه الاتفاقية تمثل انتصاراً لـ «طالبان» تعزز نفوذها وسيطرتها في تلك المناطق، كما أنها من ناحية أخرى تمثل فشل الحكومة الباكستانية في بسط الأمن والاستقرار هناك، وذلك بعد معارك دامية خاضها الجيش الباكستاني على امتداد العامين المنصرمين، راح ضحيتها 1200 مدني، وأجبر 350 ألفاً على ترك ديارهم، وقدرت قيمة الأضرار بالممتلكات والبنية التحتيه بأكثر 3 مليارات روبية كما دمرت «طالبان» 181 مدرسة بنات وأحرقت منتجع التزلج العالمي «مالابام جابا»، وفجرت ضريحاً لشاعر من القرن 17 يحظى بتقدير الباكستانيين، بسبب تردد النساء على زيارته، كما أحرقت العشرات من متاجر الأدوات الموسيقية والفيديو وأغلقت دار السينما، وقد اعترفت الحكومة الباكستانية بعجزها وخروج المنطقة عن سيطرتها لدرجة أن مولانا فضل الله المقرب من «طالبان» أدار محطة إذاعية غير شرعية كان يصدر من خلالها فتاوى ضد الحكومة، وأقام محاكم شرعية تنفذ عقوبات بالجلد والإعدام، كما أسس سلطة موازية للحكومة المركزية، وكثيراً ما لجأت «طالبان» إلى قتل أشخاص بتهمة التجسس للحكومة أو أميركا بهدف إرعاب الناس و تخويفهم.

الآن: ما هي الآثار السلبية المترتبة على هذه الاتفاقية سواء بالنسبة لأهالي وادي سوات أو للشريعة أو للوضع السياسي عامة؟ فضلاً عن أن الاتفاقية تمثل استسلاماً لقوى التشدد وتراجعاً خطيراً في سياق المعركة ضد الإرهاب، فإن التداعيات السلبية للاتفاقية عديدة، من أبرزها:

1- «الشريعة» الإسلامية نفسها، أولى الضحايا بسبب التطبيق المشوه لها، إذ يقتصر مفهوم «تطبيق الشريعة» عند «طالبان» والجماعات المتشددة عامة على الجانبين التجريمي والتحريمي كالجلد والرجم والقتل وقطع اليد وتحريم الأغاني والموسيقى والسينما وقمع الحريات، وهذا تطبيق يمثل أكبر تشويه لصورة الإسلام الحضارية. وللأسف، فإنه مع كثرة المؤتمرات التي تضم علماء أجلاء، لتصحيح صورة الإسلام ونصرة رسوله- صلى الله عليه وسلم- لا نجد أي انتقاد أو استنكار موجه ضد متطرفي المسلمين مع أنهم يسيؤون لديننا بأكثر من متطرفي الغرب.

2- «التعليم»، ضحية ثانية لسيطرة «طالبان» على المناهج، لأنها تجند المدرسين الأكثر تشدداً لتدريس مناهج تزرع الكراهية تجاه مظاهر الدولة الحديثة كافة وتخرج طلاباً يحملون قدراً كبيراً من الغلو ليس ضد الحضارة الحديثة فحسب، بل ضد المجتمع ونظامه السياسي الحاكم، أيضاً.

3- «المرأة»، هي الضحية الرئيسية للفكر الطالباني الذي لا يرى المرأة غير وسيلة للحمل والولادة، لذا يجب حبسها في البيت ومنعها من الخروج للتعلم والعمل، وقد دمرت «طالبان» مدارس البنات كلها وأنذرت أولياء أمورهن بالعدوان على بناتهن، إذا سمحوا بخروجهن للمدرسة، لقد تحولت حياة نساء الوادي إلى جحيم وتمت التضحية بهن باسم الأمن.

4- «الاقتصاد»، ضحية أخرى للاتفاقية، لقد كانت منطقة «وادي سوات» مزدهرة اقتصادياً إذ كانت مقصداً سياحياً منتعشاً يستقطب السواح بسبب مناظره الطبيعية المختلفة حيث الجبال المكسوة بالثلوج البيضاء والمنتجع العالمي، لكنها أصبحت اليوم بفنادقها وأسواقها مهجورة فقد أرعبت «طالبان» السواح فتحول الوادي إلى منطقة فقيرة.

5- «التهجير»، لقد دأبت «طالبان» على إشاعة حالة الخوف والرعب مما دفع مليون شخص إلى الفرار وترك منازلهم، طبقاً لتقدير منظمة العفو الدولية.

6- «الحريات» أصبحت ضحية من ضحايا المرسوم الطالباني الشهير للمحرمات، ذلك المرسوم الذي يشكل كابوساً خانقاً للحريات.

7- الضحية الأخيرة وطبقاً للباحث في فكر الجماعات المتشددة، «هاني نسيرة»، هي «المجتمع» بأسره الذي يضطر أبناؤه إلى هجر المدارس، والنمط الأحادي في الحياة و التفكير، والتخلف عن ركب التقدم.

تلك هي الأكلاف الباهظة التي تضطر المجتمعات والحكومات إلى دفعها لمهادنة قوى التطرف، من كان يصدق أن تضطر باكستان- ثاني أكبر دولة إسلامية، 168 مليون نسمة، والوحيدة فيها التي تملك النووي- إلى تقديم تنازلات نتيجتها التضحية بالنساء والمجتمع؟! والمشكلة في باكستان، وكما يقول د. شملان العيسى، ليست محصورة في إزدياد نفوذ الجماعات الأصولية، بل إن حالة التردي العام تشمل غالبية الشعب الباكستاني التي تعيش تحت خط الفقر وتعاني مشاكل اقتصادية تتمثل في هبوط الروبية الباكستانية وتراجع الاستثمارات الأجنبية وهروب رؤوس الأموال الوطنية وتفاقم البطالة، إضافة إلى تفشي الفساد العام في الأحزاب والحكمومة والجيش، وهكذا لم يغن السلاح النووي الذي استنزف موارد باكستان عنها شيئاً، فأعتبروا يا أولي الأبصار، والكلام موجه إلى إيران.

دعونا الآن نتساءل: كيف وصلت باكستان إلى هذه الحالة من العجز؟! ومالدروس المستفادة من هذه الاتفاقية ومن قبلها مأساة المسجد الأحمر في يوليو 2007 حيث قتل أكثر من 100 طالب متشدد؟!

1- أول الدروس المعتبرة، هو أن سكوت الحكومات العربية والإسلامية تجاه ظاهرة انتشار المدارس الدينية التي تدرس مناهج متشددة دون رقابة حازمة، أدى إلى ترسيخ الفكر المتشدد في المجتمع، وهناك في باكستان 50 ألف مدرسة دينية تحتضن مليوني طالب، ومثلها أو أكثر في أنحاء متفرقة في العالم الإسلامي كأفغانستان والصومال واليمن. هذه المدارس أشبه بمصانع لإنتاج أجيال متوترة لا تستطيع الانسجام مع الحياة المعاصرة، وللأسف فإن معظم تمويل هذه المدارس مصدره أموال خيرية خليجية خلال فترة غياب رقابة الحكومات الخليجية عليها قبل 11 ستمبر 2001. إن التعليم الديني المنغلق، أول ضحاياه المجتمع نفسه بما يغرسه من فهم خاطئ للدين وتطبيق مشوه لأحكامه وسلوكيات بعيدة عن تعاليمه، وإن التعصب الديني الذي يفرزه التعليم المتشدد هو الأخطر على المسلمين، إذ يهدد بتمزيق المجتمعات العربية إلى دويلات دينية ظلامية.

2- وثاني الدروس المهمة، هو أن تغاضي الحكومات عن هيئات أو جماعات تريد فرض وصايتها الدينية على المجتمع تحت مسميات الأمر بالمعروف أو الفضيلة أو الظواهر السلبية أو الفزعة بحجة حماية الأخلاق وحراسة الفضيلة ومحاربة المنكرات والإنحلال، يؤدي إلى نتائج مريرة تسيء إلى صورة الإسلام، وإلى سمعة الدولة الخارجية، فضلاً عن تهديدها لحريات الناس وانتهاكها لخصوصياتهم، وقد أثبتت كل التجارب المعاصرة للهيئات الدينية التي تمارس دور الشرطة الدينية سواء في أفغانستان أو إيران أو الصومال أن ضررها أكبر من نفعها بسبب ملاحقتها الناس وتتبع عوراتهم ومراقبتهم مما أنتج نفور الناس منها وكرههم لها، كما أنها هيأت مناخاً سلبياً طارداً للاستثمارات الأجنبية والسياحة، وقامعا للحريات الشخصية ولكل مظاهر الفرح والبهجة في المجتمع، وأدت في النهاية إلى انتشار المفاهيم الدينية الضيقة .

ويبقى في النهاية أن نقول إن المراهنة على سياسة استرضاء المتشددين عبر اتفاقيات أو مصالحات بالمساومة أو التنازل عن الحقوق والحريات، سياسة ثبت عقمها وفشلها، وكافة التجارب التي هادنت فيها الحكومات أو تغاضت عن سلوكيات الجماعات المتشددة في سبيل تحقيق أهداف سياسية آنية، إنما أدت إلى زيادة نفوذ تلك الجماعات وانتشار فكرها المتشدد، وكانت الدولة وأمن المجتمع هما أول الضحايا، إن إتفاقية «وادي سوات» التي زعمت أنها من أجل تطبيق الشريعة، إنما هي في الحقيقة إساءة كبيرة إلى الشريعة السمحة وتعاليمها السامية.

* كاتب قطري

back to top