هل يصنع الاقتصاد السياسة؟

نشر في 24-03-2009
آخر تحديث 24-03-2009 | 00:00
 د. عمار علي حسن تعتبر الديمقراطية في قيمها الأصلية وإجراءاتها المحددة محكاً لاختبار مدى تأثير الاقتصاد على السياسة، بل تتعدى ذلك في بعض المجتمعات لتصل إلى النقطة التي يمكن عندها الإجابة على تساؤلٍ مفاده: هل يصنع الاقتصاد السياسة؟ وهل هو الذي يسيِّر دفتها ويحدد أهدافها؟ وهذا لا يعني بالطبع التسليم بأن الاقتصاد فقط هو العنصر الفعال في تركيبة الحياة السياسية- الاجتماعية، لكن القول إنه العنصر الأكثر أهمية لا يجافي الحقيقة ولا يقفز على الواقع. وعلاقة الاقتصاد بالديمقراطية تبدأ من المنشأ وتنتهي عند صناعة واتخاذ القرارات داخل المجتمع، مروراً بتوزيع الأدوار والأنصبة أو الأوزان السياسية بين القوى التي تزاحم أو تتنافس أو تتكتل في سبيل أن تجد لها موقعا على خريطة صنع القرار.

فمن حيث المنشأ، هناك من يعيد الديمقراطية إلى جذورها الرأسمالية، باعتبار أن الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية متلازمتان، إن لم يكن في لحظة الانطلاق فعلى الأقل في اللحظة الراهنة. وهذا الربط التقليدي بين الاثنتين يستند إلى برهان تاريخي، ينزع إلى المركزية الأوروبية، وهو يقوم على أن الديمقراطية نشأت في المجتمع الأوروبي إثر انهيار الإقطاع وميلاد طبقة تجارية جديدة قادت العمل الاقتصادي، ونحتت لها أدواراً سياسية من أجل خدمة مصالحها. فاقتصاد السوق أوجد نمطاً من العلاقات الاقتصادية الجديدة، أنتجت بدورها شكلاً مختلفاً من المجتمعات الإنسانية، يقوم على التنافس والتعدد وتوافق المصالح، الأمر الذي تمت ترجمته في الديمقراطية كنظام سياسي.

وهناك مثال واحد، لكنه معبر إلى أقصى حد، عن هذا الارتباط التاريخي، فنشأة البرلمان في إنكلترا تكاد تكون مرتبطة بتطبيق مبدأ لا ضريبة دون تمثيل نيابي، والتي تعني أن الملك ليس من حقه أن يفرض ضرائب جديدة دون موافقة ممثلي دافعي الضرائب، وهم نواب البرلمان. ومعنى هذا أن دافع الضريبة، التي تعد تعبيراً عن أحد مظاهر تدخُّل الدولة في إدارة الاقتصاد، يوظف الديمقراطية السياسية في خدمة مصلحة اقتصادية، خصوصاً أن هذه الحقبة لم تكن تعرف كلمة مواطن Citizen التي تقوم عليها الديمقراطية الحديثة، بل كانت الكلمة التقليدية الذائعة الصيت في هذا الوقت هي دافع الضرائب، الذي كان بمنزلة المادة الخام للنظام الديمقراطي الوليد. لكن من المعروف أن وجود ارتباط بين الرأسمالية والديمقراطية لم تستقر أركانه أو يتمتع بشرعية اجتماعية ملموسة خلال الثورة الصناعية في أوروبا. ففي الولايات المتحدة وهولندا فقط كان هناك شكل من أشكال الديمقراطية التمثيلية ذات الوظائف القائمة على أساس قاعدة رأسمالية تجارية وليست صناعية.

ويصل الأمر بالباحث الأميركي الكبير آلان تورين في تناوله لارتباط الديمقراطية بالتحرر الاقتصادي إلى القول إن «اقتصاد السوق والديمقراطية السياسية وجهان لعملة واحدة، لأنهما يشتركان في الحد من السلطة المطلقة للدولة» وليس معنى ذلك أن هناك انسجاماً كاملاً بين الاثنين، لكن يوجد على الأقل اتفاق واضح المعالم حول مصالح مشتركة، فالديمقراطية ورأسمالية السوق «تشبهان شخصين مرتبطين في زواج عاصف يمزقه التنازع، ولكنه يستمر لأن كلا من الطرفين لا يرغب في الانفصال عن الآخر»، حسب تعبير الباحث الأميركي المهتم بقضايا الديمقراطية روبرت دال.

ويبني دال حجته هذه على أن كلا من الديمقراطية واقتصاد السوق في حاجة إلى بعضهما البعض، فالأسواق الحرة لا تريد أن تخضع لتنظيم صارم، وترفض أي إجراءات تحد من انتقال العمالة ورأس المال، ولا تقبل وصايا تمنع المستهلكين أن يختاروا السلع التي يرغبون في شرائها، أو عقبات تحول دون وصول الموارد الأساسية إلى المصانع، أو تدخل يحد من حرية التنافس بين المنتجين، والديمقراطية السياسية تلبي هذه الاحتياجات كافة. في المقابل هناك مَن يرى أن اقتصاد السوق يساعد أكثر من غيره على تحقيق التنمية التي تتم ترجمتها في تعزيز التعليم وزيادة درجة الاتصال الاجتماعي وسهولة تبادل المعلومات، الأمر الذي يزيد من درجة الوعي السياسي والاجتماعي لدى المواطنين بجميع حقوقهم، ومن ثم يتمسكون بالديمقراطية، إذا كانت موجودة، وينادون بها إذا كانت غائبة. وهذه المنفعة المتبادلة جعلت دال يقول إن الدول التي تديرها حكومات ديمقراطية تتجه إلى أن تكون أكثر رخاء من الدول التي تقودها حكومات مستبدة، وإن خبرة القرن التاسع عشر تبين أن الأولى كانت ثرية، والثانية كانت فقيرة في الأغلب الأعم. وقد تكرست هذه الصورة في النصف الثاني من القرن العشرين، بشكل يشد الانتباه.

وقد دفع هذا الوضع كثيراً من الباحثين إلى التساؤل عما بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية من ارتباط. فتورين يرى أن «الديمقراطية والتنمية تسميتان لمسمى واحد»، ثم يعود ويوضح أن «التنمية ليست سبب الديمقراطية إنما هي نتيجة لها». لكن محاولة دمج المفهومين أو توحيدهما لم تلق قبولاً عاماً، بل انقسمت الآراء حولها، لدرجة اعتبار البعض أن هناك علاقة تنافر وتضارب بين الديمقراطية والتنمية، لأسباب اقتصادية وسياسية، وهو ما سنوضح جوانبه، ونجلي بعض غموضه، في مقال مقبل.

* كاتب وباحث مصري

back to top