إن فكرة هذا البرنامج الذي سيسمى «الأخ الأكبر إلى الأبد» لن تكون مطابقة حرفيا لعالم ترومان الذي كان يجهل منذ ولادته أنه مادة تلفزيونية تعرض على الناس أربعا وعشرين ساعة، وذلك لأن مدينة هذا البرنامج ستمنح المعجبين حق الدخول إليها لزيارة سكانها.

Ad

من المؤكد أن «جورج أورويل» عندما ابتكر مصطلح «الأخ الأكبر» للتعبير عن قسوة متابعة السلطة المستبدة لدقائق حياة المواطن، لم يكن يقصد من إشارته لهذه الحقيقة أن يغري المجتمعات باتخاذها برنامجاً للّهو والمتعة، بل هو، على العكس من ذلك، أراد أن يثير رعب المجتمعات منها، بغية الثورة عليها وإلغائها نهائياً من برنامج الحياة الواقعية.

وإذا كان أورويل قد بنى بعض أعماله الأدبية على أساس هذه الفكرة، فإن صانعي فيلم «ترومان شو» قد ترجموها سينمائيا بشجاعة نادرة، فوضعونا مباشرة أمام حالتنا الرهيبة الراهنة كأرقام تعيش وتموت تحت وطأة رقابة السلطة الجبارة المسيطرة، وسط ديكورات معدة بإتقان ضمن نطاق موقع تصوير واسع يسمى «العالم»!

العجيب أن هذه الصورة المتخيلة التي حاولت أن تعرض للناس ملخصاً للصورة الحقيقية البشعة التي يحيون داخل إطارها، قد استحالت إلى ملهاة يعشقها الناس ويتابعونها بدأب وشغف، عبر برامج مستنسخة في كل البلدان، لا تستحي من أن تحمل بفخر واعتزاز عنوان «الأخ الأكبر»، ولا تتورع عن الاتفاق بأجمعها على إصابة الإنسان السوي بالصدمة والشعور بالغثيان!

ولو أن حياة أورويل امتدت إلى زماننا، لكان من المؤكد أن يتساءل بمرارة: ما حاجتكم إلى تجزئة البشاعة وعرضها كنماذج مقلدة في أكثر من مكان؟ إنكم تعيشونها في الواقع فعلا، وفي مكان واحد هو عالمكم المدجّن.

عندما شاهدت فيلم «ترومان شو» أدهشتني شجاعة منتجيه، وأسعدني أن أرى السينما الأميركية وهي تقتحم، بهذه القوة، مجال إثارة الوعي بدلا من تغييبه، وزعمت أنه يكفي هذا الفيلم نجاحا أنه حمل إلى الناس رسالة مهمة وضرورية، واستطاع، بشكل ذكي ومقنع، أن يضعهم أمام حقيقة وجودهم المخيفة محليا ودوليا. لكن لم يخطر في بالي مطلقا أن يكون هذا الفيلم ملهما بصورة عكسية، ولم أتوقع أن يبلغ شغف القطعان بالزريبة المتخيلة حداً يدعوها إلى إعادة إنتاجها ووضعها ثانية داخل الزريبة المخيفة القائمة أصلا في الواقع، على نسق الدمى الروسية!

ذلك أن برنامج «الأخ الأكبر» بنسخته الألمانية، قد بشرنا بأنه سيقفز قفزة عملاقة، بافتتاح مدينة صغيرة على أرض الواقع، تحاكي بالضبط مدينة فيلم «ترومان شو»! هذه المدينة التي تم بناؤها خارج «هامبورغ» لا تختلف عن مدينة ترومان إلا من حيث مشاركة سكانها في العرض، وهم بكامل وعيهم وإرادتهم!

وتقضي الخطة أن يقيم المشاركون لأعوام قد تمتد عدة عقود، في هذه المدينة التي ستحتوي على غابة وميدان ومتاجر وكنيسة ومدارس وشركات، حيث سيحيا هؤلاء ويتعلمون ويحبون ويتزوجون وينجبون، تحت نظر ملايين المشاهدين من كل أنحاء العالم، وعلى مدار الساعة!

وقال منتجو البرنامج إنه سيتم انتقاء أفضل مجموعة من الناس، للعيش في هذا المكان الذي يعتبر مزيجا من فيلم «ترومان شو» و«عالم ديزني»، وسيكون جميع أفراد المجموعة التي ستتجاوز المئات... عاطلين عن العمل، حيث سيمكنهم، هناك أن يتعلموا اللغات، وأن يؤدوا مختلف الاختبارات المهنية التي تؤهلهم للنجاح في الأعمال التي سوف يختارونها. ولهذا فإن هؤلاء المنتجين يأملون في إغراء الشركات بفتح فروع لها في المدينة من أجل تشغيل سكانها العاطلين، مثلما يأملون في إغراء المدرسين والأطباء بالعيش فيها.

وربّ سائل يسأل عما منع أميركا (وهي الرائدة في ابتكار مثل هذه المشروعات المدمرة) من أن تكون هي البادئة؟

والجواب عن ذلك هو أن فكرة إنشاء هذه المدينة الألمانية مأخوذة أصلا من تجربة قناة فوكس التلفزيونية الأميركية، التي أنتجت في هذا المنحى برنامجها الخاص «جنة عدن إلى الأبد» واتخذت لإقامة المشاركين فيه واحدة من الجزر الكاريبية.

وكان مقرراً أن يبقى عرض هذا البرنامج غامضاً وغير محدد الأمد، لكنه، ولأسباب غير معلومة أُلغي بعد أن بُثت منه ثلاث حلقات فقط.

غير أن بث هذه الحلقات لم يكن عبئا، فقد كان من شأنها أن تبث بسرعة عجيبة، نعمة دماره الشامل إلى أبعد مدى، لتلتقطها ألمانيا، ولتلتقطها من ألمانيا- كما هو متوقع- جميع دول عالمنا الحر السعيد!

يقال إن فكرة هذا البرنامج الذي سيسمى «الأخ الأكبر إلى الأبد» لن تكون مطابقة حرفيا لعالم ترومان الذي كان يجهل منذ ولادته أنه مادة تلفزيونية تعرض على الناس أربعا وعشرين ساعة، وذلك لأن مدينة هذا البرنامج ستمنح المعجبين حق الدخول إليها لزيارة سكانها، لكن المنهج الذي سيتبع في هذا المشروع لن يختلف عن منهج برنامج «الأخ الأكبر» من حيث اهتمامه بمتابعة حالات المصاعب الجنسية، ونوازع الافتتان التي تنطوي عليها طبيعة البشر!

عالم النفس «جو غرايبل» المتخصص في سايكولوجيا الإعلام، عبر عن قلقه حيال هذا المشروع بقوله إن الناس الذين سيمكثون في مدينة البرنامج، ومهما كان طول مدة إقامتهم سيجدون صعوبة في ما بعد في التكيف مع «العالم الواقعي».

ولا أعلم بالضبط ما إذا كان السيد غرايبل يقصد أن البرنامج سيدمر شخصياتهم، أم أنه سيلطف حياتهم، نوعا ما، فيتيح لهم عند عودتهم إلى الواقع أن يدركوا ولو بشكل متأخر، شدة وطأة عالمهم الواقعي وبشاعته؟!

لكنني أعلم جيداً أن هذا البرنامج بعد اجتذابه المشاهدين وتواصل عرضه، سيبسط جاذبيته على جميع قنوات العرب الفضائية (السباقة إلى فعل الخيرات) وستعمل بأمانة متناهية للحفاظ على كل ما يحتويه من شوائب أخلاقية، لكنها سوف لن تتردد أيضا عن المساهمة بحصتها في إنماء بنائه الحضاري، وذلك بأن تضيف إلى البرنامج لمسة تجديدية خاصة نابعة من صميم تقاليد العالم التالف، وتلك اللمسة ستتمثل في جعل نصف سكان المدينة المفترضة من رجال المخابرات!

صحيح أنهم لن يستطيعوا ممارسة أعمال التعذيب المعهودة تحت رقابة ملايين الشهود، لكن لهم ملايين الوسائل الأخرى غير المنظورة التي يستطيعون بها أن ينتزعوا المعلومات!

* شاعر عراقي