كنت أحبّ الرسم والنحت، وأحاولهما منذُ الصبا الأول، وحين أدركتني حرفة الأدب تداعيا في الظل، ولكن لم يختفيا، أما الموسيقى فطبيعة فيّ، تُضيء الشعر والرسم والنحت، ولا تغيب.
في لندن استعدتُ نشاطي الفني بسبب النشاط الفني المحيط، وتوفّرِ موادِ الفن، ويُسرِ الحصول عليها. أطلب الكانفس والألوان والفرش بواسطة التلفون. وفي الركن المضاء، المطل على الحديقة، ينتصب مَسندُ اللوحة، جاهزاً. عادةً ما ألجأ الى الرسم والنحت بالطين في ظرف التوتر النفسي الذي تُمليه عليَّ الكتابةُ والقراءةُ والمتابعةُ الموسيقية. إن هذه الأنشطة تتزاحمُ في الرأس، والجسد ساكن، هامد. تتفاعل في الأقبية الخفيّة لعالم الباطن، وفيزياء الجسد يتعبّأ بالحِمم. حين أشعر بذلك تدفعني الحاجةُ إلى الرسم والنحت. فهما فاعليةُ الجسد ذاته. أشبه بسباحة في تيار نهر. الفرشاة وسيط في أصابع اليد، ولكن لا سلطان لها عليها. حتى تقفز الأصابع حين تشاء، لتعبث بمادة الزيت على قماشة الكانفس، وتحاول الرسم. وكأنها تريد أن تتأكد أن الألوان لم تتحوّل إلى مجرد وسائط. وأنها مازالت هي هي. بكل تنوعات وتدرجات الألوان التي يتشكل منها الجسد الحي. حركة الأصابع داخل كتلة الطين، وعلى سطحها اللدائني الطيّع، تنتشل الفكرة من برودة تجريديتها داخل الرأس، لتجعل منها تكويناً ملء الحواس. ثم تتلمس التضاريس، تماماً كما يتم التلمس بين أجساد الأحياء. هذا الفعل يخلي الكيان الإنساني من كلِّ التوترات التي تُمليها فاعلية الأفكار المجرّدة. يحدثُ هذا معي بصورة جد واضحة. ولذا أرسم وأنحت. على أني كنت أرسم وأنحت بصورة متقطعة. فعل إنقاذ من توترات فعل الكتابة والقراءة والإصغاء الموسيقي. وكنتُ أحتفظ بما أرسم وأنحتُ، وكأنهما نتاج نشاط شخصي لا صلة له بما يحدث في عالم الرسم والنحت. الصديق الشاعر أنتوني هاول يملك صالة The Room لتعليم رقصة التانغو الكلاسيكية المعروفة. انشغل زمناً بترجمة قصائدي إلى الإنكليزية، عن ترجمة أولية من العربية. وفي البيت اطلع على الأعمال الفنية المُنجزة فأخذه الحماس لإقامة معرض أول في صالته الأنيقة. عرك ترددي الطويل في الدخول إلى بهو الفن والفنانين. وإذ استسلمت، جعلت الأمر جملةً بين يديه. وأُقيم المعرض مساء الجمعة الماضي، وكأنه أقيم فجأة، وفي لحظة من الزمنِ لا إعداد لها. كان الافتتاح مثيراً للحماس، حتى بيع ثلثا عدد اللوحات المعروضة، وبشيء من التنافس. كنتُ أنتزع نفسي بجهد من كيان الفنان صاحب العرض، لأكون (أو أعودَ إلى) الشاعر الذي أحسست كأني هجرته. الشاعر الذي عاودتْه مشاعر اليتم الخبيئة بقوة وعناد. كنتُ أتطلّعُ إلى اللوحات، لوحة لوحة، وأحاولُ أن أراها بدائل لقصائدي فتأبى. أحاول أن أوحّد بين رسّامها والشاعر الذي يقفُ أمامها فيأبيان. كان الجمهور الذي يحتفي بي وسط لوحاتي قد نسي تماماً (أو ربما تناسى عن عمد!) الشاعر الذي كنته. لقد أُلقي شاعر الكلمات إلى مهب الريح. حاولتُ جاهداً أن استجيب للصياغة الجديدة، صياغة التغريب، فلم أفلح في أن أكون فناناً خالصاً في مرايا الجمهور المحيط. الشاعرُ بي أثقل وطأة من جلمود صخر. ما إن أحرّكه حتى يتوعّد بمرثية، ولكن من كلمات. ما إن أستثيره حتى يوهمني بأن كلّ هذا الهاجس الملتبس، ما هو إلا قصيدة جديدة في طور التكوّن. في البيت بدأتُ القصيدة بالفعل. ورقة صغيرة وقلم وصمت، لا غير. كانت الستارة على النافذة مُسدلة، وكأنها تشكّل جداراً رابعاً. لوحة للعزلة، وعتمة الكون بُعدُها الثالث. وأنا أتصاغر «حتى لأدْنى الثواني/ تَحارُ بمقدارِ حجمي...»، والقصيدة تتّسع. لمْ أشك أنها لحظة جليلة، لحظة المخاض هذه. على أن الفنان في داخلي، وكأنه ينتقم من غفلتي عنه بالهجرانِ والتلاشي. صارَ يُشعرني باليتم ذاته، الذي عبّأني به الشاعر في هجره وتلاشيه، داخل صالة العرض التشكيلي The Room، في مساء الجمعة الماضي!
توابل - ثقافات
لحظةُ التلاشي
13-11-2008