«إذا أردتَ أن تـُربك عدوكَ أكثر... أرسل له وردة»... (مثل قديم)

Ad

* * *

مرجع لبناني على علاقة ومعرفة وثيقتين بما يدور داخل العقل الإيراني الحاكم أكّـد لي ما يلي:

1 - طهران تلقفت رسالة الرئيس الأميركي أوباما بكثير من الفرح الممزوج بالريبة والشك... الفرح لأن الرسالة العلنية منحت إيران واحداً من بنودها الاستراتيجية المهمة مجاناً، ومن دون أي مقابل، وهو الاعتراف بها كقوة إقليمية عظمى في المنطقة، لها وجودها المميز ومصالحها التي قد تساوم عليها. صحيح أن رسالة أوباما لم تشر إلى النظام الحاكم، بل توجهت بمفرداتها إلى الإشادة بعظمة الشعب الإيراني وتاريخه، وهذه نقطة ضعفها، غير أن الصحيح أيضاً أن الرسالة خلت بصورة كاملة من الهجوم على النظام الحاكم ولم تطالب بتغييره كما كان يفعل الرئيس السابق بوش وأركان إدارته، وهذا تقدّم شبه إيجابي يدل على تغيير ملموس في لغة الخطاب السياسي تجاه الجمهورية الإسلامية... هذا بالإضافة إلى أن الرسالة خلت أيضاً من أي ذكر للمشروع النووي الإيراني مما يعطي طهران ما تحتاجه من الوقت لاستكمال مشروعها وفرضه كأمر واقع.

2 - أما الريبة والشك فهما في نوايا الخطاب الرئاسي الأميركي لأن الرسالة نابعة- كالعادة– من عدم الثقة الكاملة بوجود تغيير استراتيجي أميركي تجاه الجمهورية الإسلامية كنظام، ولو كان هذا التغيير موجوداً وجدياً لكان باستطاعة أوباما أن يشير إليه بكلمة أو كلمتين أو فقرة كاملة.

إن القناعة بسلبية واشنطن لم تتغير وإن رسالة أوباما هي أول الغيث في محاولة تحريك الشارع الإيراني ضد حكامه بواسطة بعث روح العظمة القومية لاستجلاب هذا الشارع إلى الصف الأميركي عندما تبدأ بالفعل عملية تغيير النظام من الداخل. وهي خطة يعتقد النظام في طهران أن أوباما قد وافق عليها، وباتت جاهزة بل بدأ تنفيذ بنودها، ونتيجة لهذه القناعة فإن النظام الإيراني أعلن حالة طوارئ صامتة في مختلف أجهزته الأمنية والسياسية، خصوصا أن واشنطن تتحدث اليوم باللغة نفسها التي اخترعها النظام: أن تعلن شيئاً وتضمر نقيضه.

3 - سؤال طرحه أركان النظام على أنفسهم: هل نحن بحاجة إلى دعم الولايات المتحدة، أو غيرها من الدول الغربية، لإكمال مسيرتنا منذ قيام الجمهورية الإسلامية في العام 1979، أم أن الولايات المتحدة خصوصاً، والغرب عموماً، بحاجة إلينا اليوم للتغلب على ما أنتجته المتغيرات الدولية من ضعف أميركي ملموس في القدرة على المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية؟

اشترك أركان النظام في الرد على هذا السؤال الاستراتيجي بالتفصيل ما عدا المرشد الأعلى خامنئي الذي التزم الصمت بغية معرفة اتجاهات أركان نظامه. واكتفى خامنئي بأدنى مستويات الترحيب بدعوة أوباما إلى الحوار وبأعلى مستويات الشك بالنوايا الأميركية.

نتيجة لذلك ظهرت على السطح ثلاث مدارس: الأولى تعتبر أن إيران والولايات المتحدة بحاجة اليوم إلى بعضهما بعضا ولكن بنسب متفاوتة، فإذا أثبت المستقبل القريب صدق النوايا الأميركية، وبالتالي التفاف إدارة أوباما حول دعوته للحوار، بما فيها الجناح الإسرائيلي الذي مازال قوياً بعكس ما تقوله التسريبات الأميركية غير الرسمية... إذا حصل ذلك فإن مصلحة الجمهورية الإسلامية تقتضي الاستجابة للحوار، لأن ذلك يمنحها القدرة على الالتفات إلى مشاريع التنمية الداخلية ورفع مستوى المعيشة، وهي نقطة ضعف كبرى في النظام الإيراني.

وتعطي هذه المدرسة نكهة إيديولوجية دينية لدعم وجهة نظرها فتقول إن رسالة أوباما تدخل في إطار «الانتصارات الإلهية التي ألهمت أوباما على اتخاذ خطوته السلمية تلك»، وفي حال التأكد من صدقيته، وبراءة أهدافه، فإن المصلحة الإيرانية العليا تفرض التجاوب معها، والعمل على تحويلها من كلام نظري إلى فعل عملي.

أما المدرسة الثانية فهي تلتقي مع الأولى في الفوائد الاقتصادية، لكنها تختلف معها في ضرورة التجاوب السريع مع المبادرة الأميركية لسببين: الأول لقناعتها بأن إيران ليست بحاجة إلى الولايات المتحدة اليوم، ولن تكون في الغد أو بعد الغد، وأن سياسة «تقليم أظافر» الشيطان الأكبر يجب أن تستمر بشكل أو بآخر لأننا قاب خطوتين أخيرتين في استكمال هذه المهمة الإلهية. إن ما وصلت إليه إيران اليوم هو من صنع ثورتها وفي ظل محاربة الولايات لها منذ البداية، ومن يسير في هذا الدرب الطويل المليء بالأشواك بمقدوره أن ينهي المسيرة لمصلحته، فلماذا نعطي الولايات المتحدة انتصاراً بعد أن هزمناها طيلة الثلاثين سنة الماضية؟! إذا تبرعنا بهذا الانتصار الذي لا لزوم لمنحه، فإننا بذلك نعطي الولايات المتحدة فرصة البقاء على أبوابنا بما تمثله من قدرة عسكرية ونفوذ كبيرين لدى الجوار، فبقليل من الصبر والثبات نستطيع أن ننهي مسيرتنا بشروطنا لا بشروطهم.

والمدرسة الثالثة ترفض تحليلات المدرستين الأخيرتين وتظهر رأياً «دوغماتياً» متشدداً بأن واشنطن، كانت ولاتزال، الشيطان الأكبر، وهي اليوم ترتدي قناع الملائكة، وترى هذه المدرسة أنه من المستحيل على الإدارة الأميركية أن تعادي إسرائيل، وأن معاداة إسرائيل بالنسبة لنا جزء أساسي من استراتيجيتنا وقناعاتنا واستمرار تمسكنا بمبادئ الثورة التي وضع استراتيجيتها الإمام الراحل الخميني.

هذا في الجانب الإيراني، أما في الجانب الأميركي فإن اللافت للنظر أن رسالة أوباما جاءت خالية من أي إشارة للملفات المعقدة التي تفصلها عن إيران، خصوصا الملف النووي الذي أقامت واشنطن الدنيا ولم تقعدها بعد لإلغاء هذا البرنامج... إن واشنطن تسعى اليوم إلى استدراج طهران إلى القبول بالمرحلة الأولى من فك الاشتباك السياسي كي تستخدمه في معالجة شجون الحرب العراقية والأفغانية، ثم تعود إلى سابق عهدها في رفع شعارات الخطر النووي الوجودي على إسرائيل وربما على العالم بأكمله. لذلك ارتدت دعوة أوباما للحوار لباس حسن النوايا وقفازها الأبيض مع علمها بوجود لائحة طويلة بالمطالب الإيرانية تبدأ بقبول واشنطن العلني بالاستخدام «السلمي» للطاقة النووية، وتنتهي بإعلان الحياد الأميركي الكامل في الصراع العربي الإسرائيلي... ومن هنا بالاستطاعة القول إن مبادرة أوباما ليست أكثر من مناورة تكتيكية هدفها كسب الوقت لتنتهي من ذيول الحرب في العراق وفي أفغانستان وحرب الاقتصاد المتدهور.

في عددها الصادر في 16 فبراير 2009 كتبت مجلة «نيوزويك» القريبة من الخارجية الأميركية تقول: «... إن إيران تسير بخطوات حثيثة وسريعة لدخول النادي الذري الدولي. وفي الأسبوع الماضي أطلقت بنجاح قمراً اصطناعياً أخذ مداره فوق أراضي الولايات المتحدة". ثم استصرخت المجلة بعض كبار الموظفين في السفارة الأميركية في طهران الذين شهدوا حصار الطلاب لها على مدى 444 يوماً، فذكرت على لسان أحدهم: «علينا أن نتحدث إلى هؤلاء الناس (الإيرانيون) حتى نـفـهـمهم على حقيقتهم وعلينا أن نعرف أولاً مدى استعدادهم للتحدث معنا بلغة العقل لا بلغة السياسة والمراوغة... وإذا ذهبنا إلى المفاوضات تحت تأثير أن الفريق الآخر هو مجنون وعنيف وغير واقعي فإننا لن نصل إلى أي نتيجة والأفضل ألا نذهب... كذلك فإن تصريحات نجاد ضدّ إسرائيل تزيد النيران اشتعالاً. إنه يطالب أوباما بالاعتذار أولاً على الجرائم التي ارتكبتها الإدارات الأميركية ضد الشعب الإيراني منذ عام 1953، عندما دعمت واشنطن قيام انقلاب في طهران (تشير المجلة إلى الانقلاب على انقلاب مصدّق وإعادة الشاه إلى عرش الطاووس) فعندما ينشر أحمدي نجاد غسيله القديم ويطالب بالاعتذار بمفعول رجعي فإن الرجل يكون قد فقد عقله... إن ما يفصلنا عن طهران تاريخ طويل من الغضب والحقد والحزن وعلينا أن نتعامل مع هذه العناصر النفسية قبل أن نجلس معهم حول طاولة المفاوضات. وفي أي حالة لن يكون هناك مصافحة حارة قريباً".

وتختم «النيوزويك» بتقديم نصيحة إلى إدارة أوباما بضرورة طرح ملف الأمن الإقليمي في البداية الذي يشمل العراق وأفغانستان وتقول: «لقد نجحنا مع إيران في السابق، لكن هناك فريق في الداخل الإيراني وآخر في الداخل الأميركي لا يريدان للمحادثات المستقبلية أن تنجح... وفي طهران اليوم من يعتبر، عن قناعة راسخة، أن سياسة المواجهة مع واشنطن هي سياسة ناجحة ويجب الاستمرار بها»... وبعد، هل هناك من يراهن على نجاح مبادرة أوباما؟! 

* كاتب لبناني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء