أفرج عن ميشيل كيلو، لم يفرج عنه... صدر القرار بالإفراج عنه، لم يصدر... وسائل الإعلام شبه الرسمية نفسها التي نشرت نبأ صدور قرار الإفراج، عادت بعد أيام لتنفي... بعبارات جازمة قاطعة، قالت إن محكمة النقض رفضت الإفراج عن الكاتب الصحافي ميشيل كيلو والناشط محمود عيسى بعد انقضاء ثلاثة أرباع حكمهما البالغ ثلاث سنوات... ينسب الخبر إلى «مصدر قضائي ذي صلة».
بهذه البساطة و «العفوية» ينسف قرار قضائي من الوجود نفيا وإنكارا، والأكثر إثارة للعجب، أن ينسب النفي إلى «مصدر قضائي»، ما همّ أن صورة القرار المذكور كانت بين أيدي المحامين وعلى مواقع الإنترنت، «فالمصدر القضائي» أصدق تمثيلا للقضاء وأحواله.ولعل هذه التفصيلة الصغيرة في قضية المثقف والكاتب ميشيل كيلو، وزميله الناشط السياسي محمود عيسى، المعتقلين على خلفية التوقيع على إعلان دمشق-بيروت، تلخص القضية بمجملها، فالتفاصيل السابقة ليست إلا مقدمات، منذ صدور قرار الإفراج الأول قبل سنتين وتجاهله هو الآخر وإلحاقه بقرار تصحيحي يبطل الأول... التفاصيل اللاحقة ليست بذات أهمية، وتعطيل قرار الإفراج الثاني والتحفظ عليه في الأدراج يومين متتالين، وقيام النائب العام للجمهورية بعدها بمخاصمة المحكمة مصدرة القرار، في إجراء غريب وعجيب من نوعه، ليست إلا ترجمة للواقعة الأصلية المراد لها أن تكون حقيقية وما سواها وهم: القرار لم يصدر أصلا! ما حصل أثار بلبلة وصخبا لم يسبق لهما مثيل ربما، فيما يتعلق بقرار صادر عن القضاء السوري في قضية مماثلة... رأى البعض أنه كان من الأجدى عدم إقحام القضاء أصلا في قضية قراراتها سياسية-أمنية فقط، فكان أقل سوءا، ألا يتم إحراج القضاء بهذا الشكل وتحميله ما لا طاقة له به، ورأى آخرون، أن في ما يحصل اختبارا حقيقيا للقضاء السوري، حيث تتجه الأنظار إلى القرار الذي من المنتظر أن تتخذه الهيئة العامة لمحكمة النقض للفصل في القضية، فيما اعتبر متفائلون، على الرغم من خيبتهم، بأن صدور قرار قضائي مستقل، حتى لو جرى تعطيله وتجاهله، هو أمر يشكل بارقة أمل، وجميع هؤلاء وأولئك لاينسون بطبيعة الحال أن هذا القضاء نفسه، هو من أصدر حكمه المبرم بحق كيلو وعيسى، بتهمة إضعاف الشعور القومي والنيل من هيبة الدولة، أثارهما توقيع على بيان. لكن ذلك كله لا يغير من الحقيقة الوحيدة، القرار لم يصدر! لا أهمية لتاريخه ورقمه وأسماء أعضاء الهيئة مصدرته، فالقرارات القضائية الصحيحة، هي وحدها التي تصدر عندما يقول «مصدر قضائي» للإعلام الرسمي أو شبه الرسمي إنها صدرت، وهو ما يعني استمرار اعتقال كيلو وعيسى، عملا بأحكام القضاء!وليس في ذلك سابقة، والحرص العربي على احترام الدستور وتطبيق القانون وأحكام القضاء، مشهود له. انطلاقا من قدسيته ولأن شيئا لا يجب أن يخالف أحكامه، يجري ليّ عنق الدستور تعديلا بما ينسف مقامه ومغزاه، ولأن حكم القانون هو الأساس في دولة القانون، يشرع منه ما يفتقر إلى الروح وما يشاكس العدالة ويتجاهلها، المهم أن قانونا ما يحكم حالة ما، وإن نجم عن ذلك عسف أو هدر حق.ولأن الكلمة الأخيرة للقضاء، يترك ليقولها بصوت ملجلج، ومن ورائه جوقة ملقنين، قد يخطئ حينا، فيبادر ولي الأمر إلى تصحيح الخطأ بإصدار «عفو» وتجاهل تنفيذ الحكم غير العادل، وقد يخطئ حينا آخر في اتجاه آخر، فيبادر ولي الأمر أيضا إلى تصويب مساره بالحجر على حكمه ومواجهته بحكم مضاد. المهم، أن يبقى المواطنون جميعا تحت حكم ذلك القانون وذلك القضاء. أصبح ثالوث الدستور، القانون، القضاء، يشكل كابوسا يصعب الاستيقاظ منه، ودفعنا رغما عنا إلى الترحم على أيام لم يكن فيها أحد يعير اهتماما «للشكليات» الدستورية والقانونية والقضائية، ويوم لم تكن الانتهاكات ترتكب تحت قوس العدالة، بحيث تسد آخر ثقوب كان يتسرب منها أمل ما.ليست النتيجة هي هدر الحقوق، تلك مستمرة منذ ما قبل الإيمان المستجد بدولة «القانون»، بل النتيجة هي تسفيه هذا القانون ودوره وفقدان الثقة وكثير من الاحترام للمؤسسات القضائية كحكَم غير عادل وغير مستقل، وأن تتلون عناوين العدالة الأساسية بألوان قاتمة، لتنضم إلى قائمة طويلة مما جرى تشويهه ومسخه والعبث به، هكذا أصبحت تخاض المعارك ضد حقوق الإنسان وحرياته بمفردات تلك الحقوق والحريات نفسها، فالمعركة تغدو أصعب وأكثر تعقيدا مع الوقت، بعدما أصبح الجميع تحت سقف «القانون»، وهذا سقفه جهنم.* كاتبة سورية
مقالات
تحت سقف القانون
21-11-2008