حفظ الأمن ليس مهمة المواطن العادي، لكن عندما يحصل حادث أمني من هذا الوزن، فأقله أن يثير لدى الناس تساؤلات حول ما يحدث بشكل عام وما يمكن أن يحدث في المستقبل، حول مكان ودور الفرد مما يجري من حوله.
خلافا لمن عاصر أحداث الثمانينيات الدامية، فالذاكرة لا تحمل ضجيجا عاليا. أصوات الغضب والقهر لدى أصحابها معززة بكاتم صوت. الأنات مكبوتة والأحزان محاصرة ضمن جدران بيوت مغلقة على سكانها. حتى أولئك ممن شهدوا تلك الأحداث الماضية، يبدو أن ذاكرتهم انغلقت على ما فيها بقوة، الأجيال اللاحقة، يندر أن تسمع عن تفاصيل تلك الأيام من الآباء والأجداد. قد يكون لأن النسيان نعمة، ومن يرغب في تذكر العنف المعمم والرعب اليومي. أو لأن المرحلة أغلقت بإحكام، ضبطت الذكريات والأفعال وردود الأفعال، وصنعت ذاكرة جديدة كالصفحة البيضاء، دُوّن فيها فقط ما يجب تذكره على الدوام! باستثناء طقوس إطلاق المدفع في رمضان والأعياد، لا يوجد عادة إلا السكون. إحساس طاغ بأن الأقدار مسيرة ولا إمكان للعبث فيها من خارج دائرة صانعيها. بعض الاغتيالات غير المألوفة على فترات متباعدة، لم يكن من شأنها أن تغير هذا الشعور أو تهزه. السوريون يفاخرون بأن بلدهم هو الأكثر أمنا ليس فقط في المنطقة، إنما مقارنة بكثير من دول العالم. كان من المفترض أن يطرأ تغيير ما، إثر تفجير السبت الفائت. أن ينقل الأثير أصداء انفجار ليس بمفرقعات نارية في مناسبة وطنية، وليس بمدفع العيد. أن يقع بضعة عشرات من المدنيين جرحى وقتلى، واحتمال أن يكون من بينهم قريب أو صديق. أن نشاهد على شاشات الفضائيات عربات محترقة وواجهات أبنية شبه مدمرة، لموقع قريب منا، ليس في دولة مجاورة أو صديقة أو عدوة. الإرهاب الذي طالما تأسفنا على ضحاياه في غير مكان، كان هنا بشكل سافر ومن غير استئذان!مع ذلك، المدينة التي استيقظت على تلك الجريمة، بدت كما تبدو عادة. في كل مكان، حديث التفجير حديث عابر، يترك مكانه سريعا لأوضاع الغلاء والعيد المتقشف وعدم صرف منحة للموظفين! تأثر كثيرون بموت الضحايا، تماما كما قد يتأثرون لضحايا حادث سير لا أكثر. وبدا أن الإحساس بـ«الأمان» وانضباط الأمور كما اعتدناها دوما، هو السائد. حالة من عدم التصديق لما حدث، لم تستطع حتى الأخبار العاجلة والتحليلات اللاحقة أن تنال منها. ولو كان الأمر مجرد ثقة مطلقة بحالة «الأمان» السائد لما كان هناك استغراب أو تساؤل. لكن يبدو أنه إضافة إلى ذلك الشعور بأن «الأمن ممسوك بيد من حديد» كما هو شائع أن يقال، يوجد أيضا نوع من التسليم وتحييد الذات عن كل ما يجري من حولنا. باستثناء الدردشات السريعة حول تكهنات من وراء الحدث ولملمة الشائعات من هنا وهناك، يبقى الأمر وكأنه حدث في مكان آخر من العالم. طبعا، حفظ الأمن ليس مهمة المواطن العادي، لكن عندما يحصل حادث أمني من هذا الوزن، فأقله أن يثير لدى الناس تساؤلات حول ما يحدث بشكل عام وما يمكن أن يحدث في المستقبل. حول مكان ودور الفرد مما وفيما يجري من حوله. لكن يبدو أن التعب نال من أهله. ومن يشعر ألا كلمة له في أمور أبسط بكثير تمس حياته المباشرة، يستغني عن الكلمات في أوضاع أكبر وأشمل. ومن كان في موقع المشاهد المستبعد عن أي مشاركة أو تفاعل، اعتاد موقعه وأنس له. قد يسمي البعض ذلك بلامبالاة، استقالة إجبارية من الشأن العام. المواطن الذي سبق أن تحرك بضع مرات خلال الفترة الماضية، عبر اعتصامات واحتجاجات سلمية أو عنيفة، عندما طال الظلم لقمة عيشه أو مسكنه ومأواه، يراه طبيعيا جدا. لأن الوضع المعيشي الضاغط بقسوة، يكاد لا يترك له مساحة للتفكير بشيء آخر. وأي أحداث وتطورات سياسية في البلد أو المنطقة، تهم فقط بما تؤثر سلبا أو إيجابا على الوضع الاقتصادي للمواطن. أما الأحداث في ذاتها، فيراها مقدرة. أشباح تتحكم بها وبمسيرتها وتطورها، لكنها بالتأكيد تحت السيطرة. هي تحدث هنا وهناك في الوقت نفسه. قريبة جدا وبعيدة جدا. أجابني سائق التاكسي حول ما إذا كان التفجير أثر في حركة الناس في الشوارع والأسواق عشية العيد «الحمد لله، بلدنا أمان ولا يوجد خوف. لكن الجيوب فارغة والعيد ناشف!».* كاتبة سورية
مقالات
في حياد الشعب!
03-10-2008