لا يعني السؤال في القرآن الكريم فقط الاستفهام عن شيء وطلب المعرفة. ولا يعني أيضا فقط طلب حق الفقراء في أموال الأغنياء، بل يعني كذلك التذكير بالمسؤولية. فالسؤال يتضمن طرفين: السائل والمسؤول والعلاقة بينهما وهي المسؤولية. السؤال لتذكير السائل تحمل المسؤولية.v
والمسؤولية شاملة، مسؤولية الحواس الخارجية مثل السمع والبصر، والداخلية مثل القلب والفؤاد واللب والعقل، «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً». ويشهد الشاهد بصدق إذا كان جادا أو لاعبا، «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ». والرسل شهود على البشر بأنهم قد بلغوا الأمانة «فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ». ويشهد الخلق كله على المسؤولية، «أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ». فالسؤال للتذكير، والتذكير للسؤال، «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ». وهو سؤال وتذكير بلا أجر، «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ». وتتكرر الآية إحدى عشرة مرة. والسؤال لأهل الاختصاص، «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ». فالإنسان يسأل مَن يعلم حتى يتحول جهله إلى علم. ولا يسأل من لا يعلم حتى لا يتحول جهله إلى جهل مضاعف. فالقرآن أعطى المبادئ العامة مثل الشورى، والاشتراك في الأموال. وأهل الاختصاص في السياسة والاقتصاد هم الذين يفصلون هذين المبدأين طبقا لظروف كل مجتمع.والمسؤولية إنسانية محضة. ولا يجوز الاعتذار بالقدَر للتخلي عن المسؤولية، «لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ». وتتكرر الآية مرتين. ولا تعارض بين المسؤولية عن نظام العالم والمسؤولية عن النظام الاجتماعي. الأولى مسؤولية الله عن الكون بفعل الخلق. والثانية مسؤولية الإنسان بفعل التكليف.والمسؤولية هي أداء الواجب، والقيام بالتبعات، والتعهد بالالتزام وتحقيق الأمانة. وقد قبل الإنسان هذا التعهد بفعل الخلق وقبول الأمانة التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. فالالتزام بالعهد جزء من تحمل المسؤولية، «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مسئولاً». وهو عهد بين الإنسان مثل العقود، وعهد بين الإنسان والله، عهد الطاعة والالتزام والجهاد، «وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً». وفي مقابل ذلك يلتزم الله بشروط العهد من قبله وهو العهد، «كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً». والمسؤولية تخيف لأنها تتضمن الجهد والتعب، «إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ». المسؤولية تجاه الله وتجاه الأرحام، «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ). ولا حدود لشر الإنسان. ولو سئل الفتنة لأتاها، «وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا».وهي مسؤولية فردية عن الأفعال التي اكتسبها الإنسان في حياته والتي ينتج عنها الجزاء بعد مماته، «وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»، سواء كان هذا العمل صالحا أم افتراء، «لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ». إذا كان عملا صالحا فللإنسان، وإذا كان طالحا فعليه. كل إنسان مسؤول عن نفسه لا عن غيره، «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ». وتتكرر الآية أكثر من مرة بأكثر من صيغة، «قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ». لذلك تُسأل الموءودة بأي ذنب قتلت، «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ». ولا أنساب تنفع يوم القيامة، «فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ». والمسؤولية فردية وجماعية، مسؤولية فردية عن الأعمال، ومسؤولية جماعية عن أحوال الأمة. فالكل مسؤول عنها مسؤولية جماعية. لكل أمة ما كسبت وعليها ما اكتسبت، «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».والمسؤولية في الدنيا وفي الآخرة. وإذا تنصل منها الإنسان في الدنيا حيث إمكانية الخداع فإنه لا يستطيع أن يتنصل منها في الآخرة، «فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ». يسأل الصادقين عن صدقهم، والكاذبين عن كذبهم، «لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ».وفي الآخرة لا ينفع التساؤل لأن الوقت قد انقضى، والزمان قد انتهى، والعمر قد ولى، «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ». وتتكرر الآية أكثر من مرة لبيان عدم جدوى التساؤل بعد فوات الأوان. ولا أمل في الرجوع إلى الدنيا للتساؤل من جديد. فالزمان لا يرجع إلى الوراء، «وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ». كما أن التساؤل عن البديهيات لا جدوى منه مثل التساؤل عن قانون الاستحقاق، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ». فالجزاء من جنس الأعمال. فلا تساؤل عن أهل الجنة لِمَ هم في الجنة، ولا تساؤل عن أهل النار لِمَ هم في النار، «وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ». فالسؤال عن البديهي تحصيل حاصل، «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ». وبعد البعث لا يجدي تساؤل، «وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ». ومن يعمى عن الأنباء ولا يدري أن القيامة قد قامت فإنه لا يتساءل، «فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ». السؤال في الحياة وليس بعد الممات. ففي الحياة إمكانية التغير. وبعد الممات ينقضي كل شيء.* كاتب ومفكر مصري
مقالات
السؤال والمسؤولية
04-08-2008