في شارع الدرب الأحمر الذي يغادر الأسوار الجنوبية للقاهرة الفاطمية في انثناءات مختلفة قاصدا منطقة القلعة، يرى المارة مئذنة مهيبة الطلعة حافلة الزخرف، تتصدر الشارع وكأنها تسد الطريق في واحد من انعطافاته المفاجئة وهي المئذنة التي تتوج بناء مدرسة قجماس الإسحاقي

Ad

والأمير قجماس الإسحاقي من أمراء دولة المماليك البرجية، بدأ حياته في خدمة جقمق نائب الشام الذي عني بتعليمه الخط العربي الذي نبغ فيه، ثم رقى إلى عدة وظائف، حتى صار خازندار دولة الظاهر خشقدم، ثم رقى إلى رتبة أميرة عشرة في أيام سلطنة الظاهر بلباي وشهدت فترة حكم الملك الأشرف قايتباي قمة تألق قجماس، فقد عينه السلطان نائبا للإسكندرية في عام 875هـ "1470م”، وفي هذه المدينة شيد أول عمائره، وهي تتألف من مسجد خارج باب رشيد "باب الإسكندرية الشرقي”، وبجواره تربة وخان للتجار، وأنشأ أيضا رباطا خارج باب البحر وقام بتجديد جامع الصواري خارج باب سدرة.

وبعد خمس سنوات عينه قايتباي في وظيفة أمير أخور، أي المسؤول عن الأسطبلات السلطانية في وقت كانت الخيول فيه المركبات الحربية للجيش، وعهد إليه في ذات الوقت بالإشراف على بناء قلعة قايتباي الشهيرة بالإسكندرية وفي سنة 885 هـ "1480 م” عين قجماس نائبا للشام، فأنشأ بدمشق مدرسة وظل هناك إلى أن وافته المنية في شوال 892 هـ "1487 م” ودفن هناك، ولم يقدر لجثمانه أن يوارى في القبة التي ألحقها بمدرسته في الدرب الأحمر، وهي كل ما تبقى من منشآته بمصر، وقد دفن في هذه القبة الشيخ أحمد أبو حريبة المتوفى عام 1268 هـ "1952 م” ولذا تعرف المدرسة بين أبناء حي الدرب الأحمر باسم جامع أبي حريبة.

وقد شرع قجماس الإسحاقي في بناء هذه المدرسة وملحقاتها في عام 884 هـ، واستمر العمل قائما بها بعد انتقاله إلى الشام، حيث انتهت أعمال النجارة بها في عام 887 هـ وتشير ترجمة قجماس إلى أنه كان حسن السيرة مؤدبا محبا للعلماء والصالحين.

ومئذنة هذه المدرسة من أجمل مآذن دولة المماليك البرجية وأحفلها بالزخارف الحجرية، وتمثل مرحلة النضج المعماري التي وصل إليها في بناء المآذن في العصر المملوكي وشيدت على يسار المدخل الرئيسي فوق قاعدة مربعة قصيرة. حولت في نهايتها إلى مثمن بواسطة شطفات في أركان المربع على هيئة مثلثات مقلوبة، رؤوسها إلى الأسفل وقواعدها إلى الأعلى.

ولعبت هذه الأركان دور منطقة الانتقال لإنشاء الدورة الأولى المثمنة الأضلاع، والتي ازدان كل ضلع منها بهيئة محراب معقود يرتكز على زوجين من الأعمدة الصغيرة المدمجة، فيما حليت كوشات هذه العقود بزخارف هندسية نفذت بالنقش في الحجر وتنتهي الدورة الأولى بأربعة صفوف من المقرنصات الحجرية الدقيقة، برزت عند جدار هذه الدورة لتحمل شرفة الأذان الأولى، وهي ذات هيئة مستديرة ولها درابزين من حجارة مزخرفة بالتفريغ على هيئة ميعنات متلاصقة.

وبعد شرفة الأذان الأولى تنطلق الدورة الثانية، والتي جاءت مختلفة كليا عن سابقتها، فمسقطها دائري أسطواني، وسعتها وارتفاعها أيضا أقل من مقاييس الدورة الأولى ولكنها تشبه في مقرنصاتها الحاملة لشرفة الأذان الثانية، تلك المقرنصات أسفل الشرفة الأولى ثم تأتي الدورة الثالثة على هيئة جوسق مفتوح به ثمانية أعمدة رشيقة من الرخام، تحمل نهاية على شكل قبة صغيرة تعرف في مصطلح الوثائق المملوكية باسم القلة، وهي متوجة بثلاث كرات من النحاس تحمل هلالا نحاسيا وكانت هذه المئذنة قد تعرضت للإهمال، وفقدت بعض أجزائها العلوية، فقامت لجنة حفظ الآثار العربية بترميمها واستكمال ما نقص من أحجارها في عام 1312 هـ "1894 م”.

ومدرسة قجماس الإسحاقي من المنشآت المعلقة النادرة بالقاهرة، إذ ترتفع أرضيتها عن مستوى أرضية الشارع، وشغلت هذه المسافة بحوانيت تحت واجهاتها الأربع، جارية في أوقافها للإنفاق من ريع إيجاراتها على وظائف المدرسة والمدرسة من أجمل مدارس دولة المماليك الجراكسة، وتعتبر نموذجا كاملا للكثير منها فهي غنية بشتى الفنون الإسلامية.

وقد ألحقت بهذه المدرسة عدة مبان أخرى، منها سبيل ماء لشرب المارة، وحوض لشرب الدواب بأعلاه كتاب أو مكتب لتعليم الأطفال الأيتام مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وأنشأ مهندس المدرسة ميضأة خارج مبناها عبر حارة ضيقة من الخلف، ولكنه أنشأ ممرا علويا فوق هذه الحارة يصل ما بين المدرسة والميضأة، ويعرف هذا الممر فوق الطريق العام باسم الساباط، ولعله الأقدم في عمائر القاهرة الباقية إلى الآن.

ولمدرسة قجماس مدخل رئيسي يطل على شارع الدرب الأحمر. وقد حُلي مع أعتاب الشبابيك في الواجهة بالرخام الملون، بينما تزدان الشبابيك وأعتابها وأعتاب الأبواب وعمد النواصي والمقرنصات بنقوش متنوعة في الحجر.

ويدخل السبيل الملاصق المئذنة، ضمن واجهة المدرسة، وقد حلي عتب بابه بنقوش جميلة وفرشت أرضيته بالرخام الخردة " الدقيق” ، وله سلسبيل رخامي منقوش، وسقف السبيل من خشب محلى بنقوش مذهبة ملونة وبالسبيل سلم حجري يوصل إلى غرفتين تشرفان على واجهة المدرسة وعلى صحنها أيضا.

وبعد الدخول إلى المدرسة من بابها الذي يغلق عليه مصراعان من الخشب المغشي بالنحاس المفرغ بأشكال هندسية نجد " ركاة” مربعة لها سقف منقوش مذهب، وعلى يمين الدركاة مسطبة بها شباك وباب صغير، يؤدي إلى منور عليه باب للقبة التي دفن بها الشيخ أحمد أبو حريبة، ويعد هذا الأسلوب المعماري من إبداعات مهندس المدرسة للتغلب على ما صادفه من شطرات في الأرض وعلى يسار الدركاة باب كبير له مصاريع جرارة تسير في مجراه، وتدخل في سمك الجدار، وقد ظهر ابتكار الأبواب الجرارة لأول مرة في عمارة هذه المدرسة، للتغلب على ضيق مساحة دركاة الدخول.

أما تخطيط المدرسة فهو عبارة عن صحن أوسط مكشوف مفروش بالرخام، تحيط به أربعة إيوانات يغطي كل منها قبو طولي، يطل بعقد مدبب هائل على الصحن، وقد راعى المهندس التوازن في توزيع هذه الإيوانات، فجعل الإيوانين الكبيرين في مواجهة بعضهما، وأحدهما هو إيوان القبلة، بينما جعل الإيوانين الصغيرين في مواجهة بعضهما على الأجناب.

ويتميز إيوان القبلة بما حواه من صناعات دقيقة وألوان أخاذة، فقد كسى حائط القبلة بوزرة رخامية ارتفاعها خمسة أمتار، وحليت خواصر العقود وتواشيحها برخام مطعم بالمعجون الملون وبأشكال زخرفية وبوسط حائط القبلة محراب مكون من أشرطة رخامية ملونة ورخام مطعم بالمعجون الملون، وتتوج الممرات طاقية " نصف قبة” من رخام دقيق، وهي من التحف النادرة في العمائر الإسلامية.