من أجل دور إقليمي عربي فاعل

نشر في 24-11-2008
آخر تحديث 24-11-2008 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري تشهد المنطقة تحركات مصرية نشطة في عدة جبهات، تهدف إلى وحدة الصف العربي، وتحقيق المصالحة الوطنية بين الفرقاء المتنازعين في فلسطين ولبنان والسودان، تبذل مصر جهوداً مضنية لتحقيق المصالحة الفلسطينية عبر الحوار الوطني الذي تأجل بسبب مقاطعة «حماس»، إلا أن مصر مصممة على مواصلة مساعيها لعقد لقاء آخر، بداية الشهر القادم، وستستثمر اجتماع الخارجية العرب المزمع في 26 الجاري لانطلاقة ثانية للحوار، كما تشهد الساحة اللبنانية عودة مصرية قوية تحت مظلة الجامعة لدعم سيادة واستقرار لبنان، ومن ناحية أخرى قام الرئيس حسني مبارك بزيارة مفاجئة للخرطوم وزار مدينة «جوبا» عاصمة الجنوب السوداني- وهي أول زيارة لرئيس مصري بعد 46 سنة من زيارة عبدالناصر- والتقى بالرئيس البشير ونائبه «سلفا كير» رئيس حكومة الجنوب، وذلك لدفع العملية السلمية والتنموية للجنوب، وإقناع حركة العدل والمساواة في دارفور بالجلوس على طاولة المفاوضات المزمع عقدها في الدوحة، كما قام مبارك بزيارة دولة الإمارات العربية المتحدة، دعماً لموقف الإمارات في قضية احتلال إيران لجزرها، ومساندة دول الخليج في الملف الإيراني في مواجهة التهديدات الإيرانية، كما تقود مصر تكتلاً من 5 دول عربية مطلة على البحر الأحمر لمواجهة عمليات القرصنة المتصاعدة في خليج عدن بعد تأثر مصالحها الحيوية من جراء انخفاض حركة مرور السفن في القناة التي تدر 4.2 مليار دولار سنوياً.

هذه الحركات المكثفة، يفسرها المراقبون بأنها عودة لـ«دور مصر الإقليمي» في المنطقة، بعد انكفاء طويل، شغلت فيه بأولوياتها الداخلية.

ما هي نظرية «الدور الإقليمي»؟

يرجع أصل النظرية إلى الفلسفة السياسية النازية التي ترى أن لكل دولة مركزية «مجالاً حيوياً» تلعب فيه دوراً بحكم تاريخها وجغرافيتها، ويقول د. عبدالمنعم سعيد: إن هذه النظرية ترجمت على يد «جمال حمدان» في موسوعته «شخصية مصر» حيث رأى أن لمصر دوراً إقليمياً بحكم أنها نقطة تلاقي قارات العالم واختراق النيل لأراضيها، وكونها أقدم حضارة، ثم نقلت من الإطار الأكاديمي إلى المجال السياسي على يد «هيكل» وغيره.

لطالما تساءل العرب والمصريون مع كل أزمة إقليمية، أحد أطرافها بلد عربي: أين دور مصر الإقليمي؟ ولطالما نعى المتحمسون للدور الناصري على مصر، تراجعها وانكماشها! وهذا أمر طبيعي، فقد نشأت وجيلا عربيا كاملا، من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، نردد: لبيك عبدالناصر، الذي كان يخطب في القاهرة فتقوم المظاهرات في المغرب والخليج، لقد نشأنا على أدبيات الفكر الناصري الممجدة للدور الإقليمي المصري الذي بلورها «فلسفة الميثاق» في ثلاثة دوائر: العربية والإفريفية والإسلامية «قدراً» لمصر وليس «اختياراً» لاعتبارات مكانة مصر وموقعها وثقلها التاريخي، كان الحكم الناصري خير ممثل لنظرية «الدور الإقليمي» في الخمسينيات والستينيات، وبلغ هوس البعض أن جعلوها «عقيدة» وطنية، النكوص عنها بمنزلة خيانة، ونقموا على «السادات» لأنه كبح دور مصر الإقليمي مقابل صفقة «كام ديفيد» التي استرد بموجبها سيناء وفتح القناة في «1975» واستمرت نقمتهم على «مبارك» لأنه طبق سياسة «مصر أولاً» ولم يرسل الجنود للخارج ليلعب الدور الإقليمي كعبدالناصر، هؤلاء السلفيون السياسيون يتحسرون اليوم لأن مصر لا تلعب دوراً إقليمياً في قيادة النظام العربي لمناطحة أميركا، وينتقدون مصر لأنها لم تدافع عن صدام حين الغزو الأميركي، ولكنهم يتجاهلون النتائج المريرة لدور مصر الإقليمي في العهد الناصري، حيث سخرت موارد مصر في لعب هذا الدور، من صناعة ثقيلة وجيش عرمرم مدجج بالسلاح الروسي، وحرب في اليمن، وتقسيم للدول العربية إلى رجعية وتقدمية ومناطحة أميركا، وكانت النتيجة مأساوية ومات الزعيم وسيناء محتلة وقناتها معطلة وأوضاع مصر متردية، وتسلمت سورية البعث «الراية» ومارست لعبة الدور في مجالها الحيوي «لبنان» تحت مبررات قومية، وانسحبت بعد ثلاثة عقود، وكان هذا الدور الخارجي على حساب الدور التنموي الداخلي، ثم انتقلت «الراية» إلى «صدام» الذي رأى مجاله الحيوي «إيران والكويت» فشن حرباً على الأولى وغزا الثانية، وسخر موارد العراق من أجل السلاح النووي، وكانت النهاية مأساوية أيضاً، واستهوت لعبة «الدور» ليبيا حيناً من الدهر، صرفت فيه نصف ثروتها بحثاً عن دور، لم تجن من ورائه إلا وبالاً، لكنها استوعبت الدروس، وتداركت الأمور، وخرجت من الملعب بأقل الخسائر الممكنة، وما هذا النزاع المزمن بين المغرب والجزائر على الصحراء، إلا تنافساً على «الدور» المهيمن، وكذلك أزمة «دارفور» ما هي إلا أحد تجليات لعبة «الدور» السوداني.

لقد أخفقت كل تجارب لعبة الأدوار الإقليمية للعرب، وارتدت عليها بالخسران ولم تجن تلك الدول من ورائها إلا غزوها واحتلالها وفشل مشاريعها التنموية، ولم يعد للعرب اليوم أي دور إقليمي فاعل، لأن «إيران» أصبحت اليوم هي الوريثة الشرعية الوحيدة لراية «الدور» من غير منافس، وهي ترى في المنطقة العربية «مجالها الحيوي» فتسخر في سبيل ذلك، موارد إيران الهائلة في شراء الذمم والولاءات العربية -السنية والشيعية- بحيث أصبح لها «لوبي» عربي يدافع عنها، ويبرر مشاريعها ويساعد على تغلغلها في العمق العربي، لإيران اليوم حلفاء عرب مناهظون للنظام العربي، ولمبادرة السلام العربية، وإيران تستثمر الحلفاء الإقليميين كأوراق تفاوضية مع القوى الكبرى في سبيل هدف واحد: الحصول على السلاح النووي... حلمها التاريخي.

ولكن هذه الانتكاسات التي منيت بها لعبة الأدوار العربية، ليست مبرراً لتراجع الدور المصري أو العربي عامة، وبداية فمن حق أي دولة عربية -صغيرة أو كبيرة- أن يكون لها دور إقليمي ما دامت لديها الإمكانات اللازمة، ولكنّ هناك فرقاً بين دور عدواني- كحالة الحكم الصدامي- أو دور بهدف الهيمنة- حالة الحكم الناصري- أو دور يهدف لتعميق الانقسام العربي وتهديد الاستقرار -حالة إيران- ودور إيجابي يهدف إلى إصلاح «ذات البين»، كما في حالة قطر التي حققت إنجازات مشهودة، وكما في حالة مصر التي تسعى إلى رأب الصدع وإنهاء حالة الانقسام العربي.

ما هي مقومات نجاح الدور المصري وما معوقاته؟

في تصوري أن أكبر عقبة أمام الدور المصري هي «الدور الإقليمي الإيراني» الذي يرى في الدور المصري تهديداً لمشروعاته وخططه في المنطقة، وهذا هو السبب الأساسي وراء إفشال الحوار الفلسطيني في القاهرة عبر «حماس» التي صرحت أخيراً بأن الحركة لا تريد لمصر أن تستمر في رعايتها للحوار، وأنها تفضل قطر، لأن نجاح مصر في تحقيق المصالحة الفلسطينية- أم المشاكل العربية- يعد نجاحاً باهراً للدور الإقليمي المصري، وذلك لا يصب في مصلحة إيران فعودة مصر تعني انكماش إيران.

السؤال الآن: إلى متى تتلاعب إيران بالمنطقة؟ وإلى متى يبقى العرب جالسين في منصة المتفرجين ولا ينزلون إلى ساحة الملعب ليمارسوا أدوارهم الحيوية؟ إنه يمكن للدور المصري أن يكون مثمراً وفعالاً، بل يصبح دوراً عربياً مشتركاً إذا سانده العرب، خصوصا دول الاعتدال العربي، التي لديها موارد وطاقات هائلة تجعلها دولة إقليمية لا يمكن تجاهلها أو الاستخفاف بها.

يذهب عبدالله بن بجاد العتيبي إلى «أن لدى دول الاعتدال العربي ما يمكنها من إعادة الصراع جذعاً وإعادة اللعب بموازين القوى على الأرض، غير أن ذلك يتطلب تنسيقاً وتكاملاً أولاً، وعملاً وجرأة على التأثير بكل تبعاته ثانياً».

إن دعم الدول الخليجية للدور الإقليمي المصري، يحقق مصلحة خليجية عليا، لجهة طمأنة الخليجيين أمام تهديدات إيران واستفزازاتها لدول المنطقة، وضمانة عربية لمواجهة المشروع الإيراني الساعي إلى الهيمنة على الخليج والمنطقة العربية كلها، فإيران اليوم لا تكتفي بدور «شرطي الخليج» كما كانت أيام الشاه، بل تطمح وتسعى بقوة لتصبح «شرطي المنطقة» بأسرها فلا يبرم أمر ولا يتخذ قرار إلا بعد مشاورتها وموافقتها، وهذا ما لا ينبغي السماح به، أو السكوت عليه، لأنه يهدد المصالح العربية جميعاً، ويجعل المنطقة رهن الحكم الإيراني، وهو حكم شمولي يعانيه شعبه فكيف بالآخرين؟!

على الدول العربية دعم الدور المصري الساعي إلى تفعيل العمل العربي المشترك، فهو الخيار الأفضل والمضمون عربياً، فعندما تكون مصر قوية، يكون العرب أقوياء، كان الملك عبدالعزيز- رحمه الله- يردد مقولة في كل تجمع عربي: «قفوا مع مصر فإذا هي قويت أنتم أقوياء، وإذا ضعفت فأنتم ضعفاء» وقد صدق.

* كاتب قطري

back to top