مذكرات فؤاد بطرس السوريون يبتزون لبنان... والحص يؤيد موقفهم ويقتنع بجدواه عدت من مؤتمر الكويت بانطباع أن العالم العربي غريب وفي حال مقلقة دمشق وبغداد تضغطان على الدول الخليجية لمقاطعة مصر واتخاذ موقف أكثر حزماً ضدها فهمت من بطرس غالي أن السادات رجل مغلق لا يعطي سره لأحد وموقفه محفوف بالمخاطر الحلقة التاسعة

نشر في 24-08-2008 | 00:00
آخر تحديث 24-08-2008 | 00:00
بعد تعثر محاولات إنقاذ البلاد كلها، وانهيار الجهود لإعادة بناء الدولة وفرض هيبتها، تقلص طموحنا وإن كنا لم نستسلم للواقع الصعب الذي كبّل أيدينا. لقد بات الوضع في لبنان، بعد المتغيرات الإقليمية والمحلية الكبيرة التي شهدها عام 1978، منقسماً بين جبهة لبنانية لا تجد ضرورة حتى لإخفاء تحالفها مع إسرائيل، وحركة وطنية وتنظيمات يسارية متحالفة مع سورية. أدركنا في تلك المرحلة أنه ليس في مقدورنا مقاومة دمشق والاصطدام معها، خصوصاً أن واشنطن نفسها كانت لاتزال تدفع في اتجاه تعاون إيجابي بين القيادتين اللبنانية والسورية، ولكننا كنا عازمين على عدم القبول بما يمس مصلحة لبنان وكرامة الوطن وهيبة الحكم.

أمسينا في هذه الفترة أكثر إدراكاً لمسألة دقيقة هي أنه لم يعد يسعنا سوى إدارة الأزمة ومحاولة استيعاب كل سياسة تؤدي إلى تدهور أمني وكل منحى تصعيدي يهدد بتفجير الوضع برمته. بات همنا أيضاً حماية الناس والمحافظة على ما تبقى من القدرة الاقتصادية والاستقرار المالي حتى لا يدفع المواطنون اللبنانيون، من كل الفئات ثمن تقاتل القادة السياسيين وتنازعهم على مواقع النفوذ، في لقمة عيشهم بعدما دفعوا ثمناً باهظاً في أرواحهم وممتلكاتهم.

أهلا بك في سورية

افتتح رئيس الجمهورية إلياس سركيس عام 1979 بخطاب أمام السلك الدبلوماسي أعلن فيه رفضه للتوطين ولمبدأ حل القضية الفلسطينية على حساب الشعب اللبناني، مكتفياً بإشارة مقتضبة إلى سورية ودور قوات الردع العربية في لبنان خلافاً للمألوف مما أثار استياء دمشق التي انتقدت صحافتها الخطاب. وساد نوع من الفتور في العلاقة بين القيادتين اللبنانية والسورية دفع رئيس الحكومة سليم الحص إلى إجراء اتصال هاتفي مع دمشق طالباً أن يزورها فحدد له موعد يوم السبت في الثالث عشر من كانون الثاني (يناير). وكان رئيس الحكومة أبدى أمامي رغبة في القيام بهذه الزيارة في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 1978، ولكنني أظهرت له عدم حماستي واقتناعي بأن لا فائدة تجنى منها للبنان في ظل الظروف السائدة.

عاد الرئيس الحص من العاصمة السورية بانطباع أن السوريين يربطون أي تسهيل أمني بإقرار قانون الجيش، واتخاذ تدابير بحق الرائد سعد حداد والجنود التابعين له، وبالتحرك السياسي على صعيد الوفاق لكن بحسب مفهومهم له. وأظهروا أيضاً عدم حماستهم للبحث في تشكيل حكومة جديدة يشترك فيها أمين الجميل وداني شمعون. شعرت، وأنا أستمع إليه يوجز لي في اتصال هاتفي فحوى المحادثات التي أجراها في دمشق، بأن السوريين يمارسون الابتزاز وبأنه مقتنع بجدوى موقفهم لأنه أساساً يشاركهم في الرأي. وقال لي رئيس الحكومة إنهم رحبوا بفكرة قيامي بزيارة إلى دمشق ناقلاً عن الرئيس الأسد قوله: «أهلاً به في سورية ساعة يريد».

في هذه الأثناء، تحرك رئيس مجلس النواب كامل الأسعد بسرعة من أجل الجنوب الذي شهد تدهوراً أمنياً واشتباكات بين الفلسطينيين وقوات الرائد سعد حداد. وطالب بتحويل قوات حفظ الأمن الدولية في المنطقة الحدودية إلى قوات ردع تحت طائلة رفض التجديد لها، إلى ما سوى ذلك من شعارات شعبوية تستهدف استدرار تأييد الرأي العام. وعقدت لجنتا الخارجية والدفاع اجتماعين برئاسته حاول فيهما أن يحرج الحكم والحكومة، وبالفعل تهيب الحص الموقف، وفاتحني بموضوع تعديل مهمة القوات الدولية، ومطالبة مجلس الأمن بفرض عقوبات على إسرائيل. وأذكر أنني عندما سمعت هذا الكلام ذهلت نظراً الى جهل بعض المسؤولين اللبنانيين للقضايا الدولية، ولما كان يدور في المنطقة والعالم، ولتأثرهم الكلي بالدعاية.

أجواء مشحونة

في تلك الفترة، تصاعدت الحملة على الرئيس إلياس سركيس حتى بدا أن مهاجمته وانتقاد أسلوب عمله هما نقطة الإجماع الوحيدة بين اللبنانيين، ابتداء من «الجبهة اللبنانية» ومروراً بحلفاء سورية ووصولاً إلى اليسار والحركة الوطنية، كان الجميع ضده ويرغبون إما في إخضاعه أو اعتزاله. أما هو فكان لا يتحرك من القصر لاعتبارات أمنية، ويستبعد حلاً سياسياً يقوم على تشكيل حكومة سياسية من الوسط، لا تضم أقطاباً أو تكنوقراط، لأنه كان يرى أن الجو غير مناسب للوفاق بسبب وضع المنطقة التي تجتاز مخاضاً صعباً ستكون له انعكاسات خطيرة على لبنان. وكان يواجه ضغطاً محلياً وعربياً ودولياً وخصوصا أميركياً كي يرفع تحفظه عن مشروع قانون الدفاع الرامي إلى تقليص نفوذ قائد الجيش. في المقابل، كان رئيس الحكومة الحص يؤيد فكرة قيام حكومة وسط تعمد إلى تطبيق مقررات مؤتمر بيت الدين، ومع فكرة العمل على وضع صيغة معينة للوفاق تستبعد الفدرالية بصورة مطلقة، وكان بالطبع مع السير في قانون الدفاع.

إزاء هذا التناقض في المواقف، أخذ رئيس الحكومة يفكر في الاستقالة، وطلب مني أن أزوره في التاسع عشر من كانون الثاني (يناير) 1979. وعندما اجتمعنا أفصح لي عما يدور في خلده، فحاولت أن أقنعه بالتريث قليلاً لكنه ألحّ عليّ بأن أفاتح رئيس الجمهورية بأمر الاستقالة. وعملت، من جهتي، على التقريب بينهما قدر الإمكان، فعقدنا اجتماع عمل ثلاثياً في الرابع والعشرين من كانون الثاني (يناير) من أجل تبديد الجو المشحون الذي كان سائداً بينهما، ومن أجل إقناع الرئيس الحص بصرف النظر عن تقديم استقالته ولو مؤقتاً، وقد نجحنا في ذلك إلى حد بعيد.

عقدنا جلسة عمل ثانية بعد ثلاثة أيام، وبحثنا في التحركات الواجب القيام بها في الجنوب خصوصاً لجهة تأمين حضور الدولة وخدماتها في تلك المنطقة حتى قبل إرسال الجيش، فاتفقنا على هذه النقطة.

استدعاء السفراء

إزاء استمرار الجنوب ساحة مفتوحة، استدعيت سفراء الكويت والسعودية والعراق وطرحت عليهم السؤال التالي: إذا كانت قضية الجنوب جزءاً من القضية الفلسطينية فهي تتعلق إذن بالعرب جميعاً، فإما أن يكونوا جميعاً يريدون القتال انطلاقاً من الجنوب عبر المقاومة الفلسطينية، وليضعوا عندئذ خطة مواجهة واحدة وليتحمل كل طرف مسؤوليته، وإما أن المقاومة تقوم بعمل منفرد واعتباطي، فتعرضنا وتعرض نفسها، وتعرض العرب جميعاً للخطر، وفي هذه الحال، نطلب إليكم أن تساعدونا على وقف عملياتها من الجنوب حتى إشعار آخر. لم أكن أجهل عقم هذه المساعي لكنني وجدت أنه من واجبي أن أبرئ ذمتي تجاه ضميري والمجلس النيابي والرأي العام اللبناني الذي لم يكن بعيداً في تساؤلاته ورغبته عما طرحته على السفراء العرب. وكان اقتناعي في ذلك الحين أن لبنان وجنوبه يضحى بهما في سبيل القضية الفلسطينية، وأن أحداً من العرب لا يبالي بذلك، لأنهم كانوا يعرفون أنهم غير قادرين على منع المقاومة من التحرك، فتساءلت في نفسي: «ترى، هل من محل للتحرك أسلم لهم من لبنان؟

في الرابع من شباط (فبراير)، وردني تقرير سري من سفير لبنان في باريس نجيب صدقة نقل فيه ردود الفعل التي أعرب عنها موشي دايان حيال ما يجري في الجنوب أمام الدبلوماسية الفرنسية: «إن إسرائيل غير مستعدة على الإطلاق لأن تتخلى عن سعد حداد وجماعته، أو أن تسكت عن أي عمل فدائي ضدها أياً كانت النتائج، فليكن ذلك معلوماً!» وما زاد الأمر تعقيداً مبادرة سعد حداد في تلك الأثناء إلى توجيه إنذار إلى الجيش اللبناني بمهاجمة الكتيبة التابعة له المرابطة في كوكبا ومهاجمة القوات الدولية المنتشرة في المنطقة الحدودية من دون هوادة إذا عمدت القيادة إلى قطع الرواتب عن الجنود العاملين تحت إمرته. في المقابل، وصلتني برقية من السفير غسان تويني من نيويورك ينقل فيها انزعاج الأمم المتحدة من موقفنا من جنود سعد حداد. فازداد بذلك موقفنا حرجاً.

حجج سعودية

بعدما تأخر سفراء السعودية والعراق والكويت عن إفادتي بمواقف حكوماتهم، استدعيتهم لهذا الأمر ولكنهم لم يكونوا تبلغوا تعليمات واضحة، فجددت مطالبتهم بالمساهمة في تذليل عقبة تأمين طريق تموين للجيش. وقد تولى رئيس الحكومة بحث هذا الموضوع مع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية، وجاءت أجوبتهم، كالعادة، مزيجاً من المراوغة والتهرب والتضليل مثلهم مثل جماعة سعد حداد. فكل من الجانبين لا يريد من الجيش سوى تنفيذ مبتغاه: الحركة الوطنية تريد الجيش في الجنوب لاختراق الجيوب المسيحية والشيعية ومحاربة إسرائيل، في المقابل، كان سعد حداد والتنظيمات الأخرى يريدون منه أن يحارب التنظيمات الفلسطينية.

وقد عكست محادثاتي مع مساعد الأمين العام للأمم المتحدة بريان أوركهارت، في الثالث عشر من شباط (فبراير)، شعوراً بانسداد أفق الحل في الجنوب. وكشف أوركهارت عن جانب من محادثاته مع إسرائيل معتبراً أنها لم تكن إيجابية، فإسرائيل لا يهمها إلا سلامة حدودها وبالتالي التصدي للتسلل الفلسطيني، ومن ثم تأمين مصير سعد حداد وجماعته. وهي تعتبر لبنان برمته قاعدة عدوة لذلك تخول نفسها حق الرد بالقصف على أي بقعة منه في حال حصول عمليات فدائية ضدها. أما الجيش اللبناني فلا تمانع في دخوله شرط أن يبقى ضمن منطقة انتشار القوات الدولية وعلى ألا يمر عبر طريق مرجعيون.

سنحت لي الفرصة لاستجلاء الموقف السوري على هامش اجتماعات الجامعة العربية التي انعقدت في الكويت بين الرابع والسادس من آذار (مارس) 1979، بناء على طلب اليمن الشمالي إثر اندلاع الحرب بين اليمنين قبل أيام. وقد ارتأيت أن أذهب شخصياً على رأس الوفد اللبناني أولاً، لأن الأمانة العامة للجامعة أبدت تمنيها أن يحضر وزراء الخارجية بأنفسهم بالنظر إلى أهمية الموضوع، وثانياً، للإفادة من فرصة اجتماع وزراء الخارجية العرب كي أجري بعض الاتصالات الضرورية بالنسبة إلى لبنان خصوصا مع وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل في شأن سحب وحدة بلاده المشاركة في قوات الردع العربية. إذ كان قائد الكتيبة السعودية تلقى أمراً بالانسحاب من لبنان، وأخطر قائد قوات الردع العربية بالأمر، والحجة التي قدموها هي حاجتهم إلى قواتهم ليحشدوها على الحدود مع اليمن. كما أن الملك خالد بعث برسالة إلى الرئيس سركيس بهذا المعنى، فبادرت على الفور إلى الطلب من سفيرنا في السعودية القيام بالمساعي اللازمة للرجوع عن القرار أو تجميده على الأقل.

أجواء معادية لمصر

كان اجتماعي في الكويت مع نظيري السوري عبدالحليم خدام ودياً على وجه الإجمال. إذ أعدنا وصل الحوار المقطوع بيننا منذ مؤتمر بيت الدين، وبخاصة منذ الندوة الصحافية التي عقدتها بعده، وتواعدنا على استئناف الاتصالات في القريب العاجل. أما الأمير سعود الفيصل فقد شدد على أن الدافع لسحب القوات السعودية من لبنان هو حرب اليمن التي اعتبروا أنها تستهدفهم مباشرة، وأكد لي أنه إذا نجحت المساعي لوقف القتال الدائر على حدودهم، فإنهم لن يسحبوا كتيبتهم المشاركة في قوات الردع العربية. وكان موضوع التجديد لهذه القوات على جدول أعمال اجتماعي مع الأمين العام لجامعة الدول العربية محمود رياض، إضافة إلى موضوع عقد مؤتمر وزراء المال لمساعدة لبنان وفق ما قررته قمة بغداد قبل خمسة أشهر. ففهمت منه أن السعودية والكويت غير مستعجلتين لعقده، وأنه «لابد من تحرك على مستوى عال، مثلاً على مستوى رئيس الحكومة».

كان لي أيضاً اجتماع مهم على هامش المؤتمر مع وزير الخارجية المصرية بطرس بطرس غالي الذي كانت بلاده تخوض مفاوضات شاقة مع إسرائيل في ظل جو عربي معاد لمصر. وقد فهمت منه أن الرئيس المصري أنور السادات رجل مغلق تماماً لا يعطي سره لأحد وأنه يعتقد أن موقفه محفوف بالمخاطر، وأنه شعر بأن عليه التجاوب مع رغبة عميقة لدى الشعب المصري في التخلي عن دوره في قضية فلسطين وفي العالم العربي بعد الأثمان الباهظة التي دفعها في الحروب المتتالية التي أسفرت عن احتلال قسم من أرضه وعن خسائر هائلة في الأرواح، ناهيك عن ديون كبيرة تعيق نمو الاقتصاد المصري.

أما المؤتمر في الكويت في حد ذاته فكانت مناقشاته مفيدة. ومنذ بدايته، بدا أن ثمة محورين يشدان الحبل: العراق، وسورية، واليمن الشمالية والكويت والسعودية وسائر دول الخليج من جهة، وليبيا والجزائر واليمن الشعبية من جهة أخرى. وأطرف ما جرى أن العراق وسورية على رغم الروابط التي تشدهما إلى اليمن الجنوبية، قادا الحملة ضدها حتى أن دمشق هددت بإرسال جيشها للتصدي لقواتها. وأغلب الظن أن دمشق وبغداد رمتا إلى إحراج السعودية وسائر دول الخليج لحملها على إبداء مواقف أشد حزماً ضد مصر المتجهة بخطى سريعة نحو معاهدة سلام مع إسرائيل. وعدت إلى لبنان بعد المؤتمر بانطباع أن العالم العربي غريب وفي حال مقلقة.

الحد الفاصل

مع اقتراب انتهاء مدة عمل قوات الردع العربية، كلفت السفير حسين العبدالله أن يرأس الوفد اللبناني إلى الدورة العادية لمجلس جامعة الدول العربية في مقديشو في الرابع والعشرين والخامس والعشرين من آذار (مارس) 1979، وأن يطلب التجديد لهذه القوات ستة أشهر في لبنان. وعندما عرض الموضوع للبحث، قدّم السفير العبدالله الطلب الرسمي باسم رئيس الجمهورية، فما كان من رئيس الوفد السعودي إلا أن قدم اقتراحاً باسم بلاده والدول الممولة بالتمديد ثلاثة أشهر بدلاً من ستة طالباً من المؤتمرين التصويت عليه دون مناقشة. وللحال صوت المجلس بالإجماع تقريباً على الاقتراح السعودي وسط صمت الوفد السوري وذهول الوفد اللبناني الذي نقل إلّي بعد أيام انطباعه بأن القضية متفق عليها مسبقاً. وفي اعتقادي، في حينه، أن العرب عموماً والسعوديين خصوصاً سئموا لبنان وانقساماته، ولكنهم أرادوا في الوقت نفسه أن يهزوا العصا لسورية التي كانت على رأس حملة إحراج الأنظمة العربية الموالية للولايات المتحدة.

وقع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس حكومة إسرائيل مناحيم بيغن معاهدة السلام بين البلدين بحضور الرئيس الأميركي جيمي كارتر في السادس والعشرين من آذار (مارس) 1979 في البيت الأبيض. وكان وقع التوقيع شديد الوطأة على العالم العربي كما على لبنان حيث قامت التظاهرات في المنطقة الغربية والمناطق ذات الأغلبية الإسلامية احتجاجاً على المعاهدة. في هذه الأجواء المعادية لمصر عقد اجتماع وزراء الخارجية والمال العرب في بغداد في السابع والعشرين من آذار (مارس)، وقررت المشاركة فيه.

كان ذلك المؤتمر أشبه بالمسرح الكبير حيث ظهرت انقسامات العالم العربي والميول المختلفة والفلسفات والإيديولوجيات المتنازعة لتبيان ما هو أكثر ضرراً للدول العربية: الشيوعية أم إسرائيل. وكان على بعض الدول العربية التوفيق بين الالتصاق بالولايات المتحدة اقتصادياً وسياسياً، لا بل الاعتماد عليها للدفاع عن النفس من المد اليساري في الخليج، وبين مناهضة سياستها المنحازة لإسرائيل في القضية الفلسطينية، وبالتالي أين الحد الفاصل؟ وما هي في المستقبل نتيجة الإجراءات المتخذة بحق مصر، وهل ستطال الولايات المتحدة في ما بعد؟ تلك كانت المعادلة التي شغلت بعض الدول العربية، وإن لم يفصح عنها أحد صراحة.

مع أم ضد «الخيانة»؟

انقسم المشهد منذ اللحظة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية، والعراق، وسورية، والجزائر واليمنين الشمالي والجنوبي، وليبيا من جهة، وبين السعودية، والكويت، والبحرين، وقطر والإمارات من جهة ثانية. حاول الفريق الثاني أن يتهرب من إقرار عقوبات صارمة بحق مصر عبر المماطلة والتسويف من تأجيل، إلى تأجيل، إلى لجنة صياغة، إلى تعارض في وجهات النظر. لكن حضور أبوعمار شخصياً مع جميع أركان منظمة التحرير، وجلوسه إلى منصة الرئاسة، وإلقاءه خطابين ينطويان على تهديد ووعيد مبطنين، إضافة إلى الجو الذي ولّدته أجهزة الإعلام العراقية، والمصالحة العراقية- الفلسطينية بعد المصالحة السورية- العراقية، شكّل وسيلة ضغط هائلة على العرب المعتدلين. وقد احتدم الأمر عندما انسحب الوفد الفلسطيني، وتبعه السوري، ثم الليبي، وجرى التهديد باللجوء إلى التصويت «مع الخيانة أو ضد الخيانة وليتحمل كل مسؤولياته»!

كنت أتمنى وأنا أتابع مجريات السجالات، أن نتحاشى التصويت والانقسام لأن مصلحة لبنان تقضي بأن يصوت لبنان مع ما يطرحه الرئيس السوري حافظ الأسد أي قطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع مصر، على رغم أننا كنا نأمل ألا نصل إلى هذا الحد خشية أن يؤثر ذلك في علاقتنا مع الدول الخليجية وفي مقدمها السعودية.

تأجلت الجلسات، وعادت وفود دول الخليج إلى بلدانها. ودخلت الأردن وسورية وتونس في حركة اتصالات ووساطات، ومورست ضغوط داخلية على الكويت حيث قامت تظاهرات واغتيل مدرسون مصريون، إلى أن لانت دول الخليج وتراجعت. وتم التوصل إلى قرار توفيقي قضى بتجميد العلاقات الدبلوماسية مع مصر والتوصية بقطعها نهائياً بعد شهر، فتجنبنا بذلك التصويت الذي كان سيضر بنا بشكل أو بآخر. وتمكنت المقاومة الفلسطينية من فرض إرادتها على الجميع والمحافظة على تأثير بالغ على الاتجاهات العربية كافة.

فور عودتي من بغداد، عكفت على درس نتائج المقررات التي اتخذت فيها، فعمدت إلى سحب سفيرنا حسين العبدالله من القاهرة وتعيينه سفيراً لدى الجامعة في تونس. وانشغلت بالتفكير بمن سيتولى رعاية مصالحنا وشؤون اللبنانيين في مصر، وتساءلت ما إذا كان بإمكاننا أن نبقي على العلاقات القنصلية على الأقل. كما وجدتُ، لدى عودتي من العاصمة العراقية، من يحاول إقناعي بقبول تولي حقيبة الدفاع مجدداً لأن قائد الجيش اضطر إلى الاستقالة مراعاة لنص قانون الدفاع الجديد الذي يمنع الجمع بين القيادة وأي وظيفة سياسية. ولكنني رفضت ذلك رفضاً باتاً لاعتبارات عديدة.

«دولة» سعد حداد

في ذلك الجو من الجمود على المستوى الداخلي، تحركنا بجدية لتأمين دخول الجيش إلى الجنوب كجزء من مخطط متكامل يلحظ جميع المراحل التي لابد منها لتنفيذ القرارين 425 و426. وبعدما قمنا بكل ما يلزم لتأمين دخول الجيش إلى منطقة عمل القبعات الزرق وحصلنا على تأكيد من الولايات المتحدة والدول المشاركة في «اليونيفيل» أن إسرائيل عادت عن تصلبها وأبدت تساهلاً لانتشار الجيش، حددنا السابع عشر من نيسان (أبريل) 1979 موعداً لانطلاق الوحدة العسكرية اللبنانية جنوباً. غير أن السفير الأميركي جون غونتر دين طلب، في السادس عشر من نيسان (أبريل)، مقابلة عاجلة مع رئيس الجمهورية بحضوري وأفادنا بأن إسرائيل لا توافق على نشر الجيش على حدودها وبأن الكتيبة اللبنانية ستتعرض للقصف طالباً إلينا التريث مدة أربع وعشرين ساعة قبل إرسالها ولكن دون أن يتعهد بشيء. وكانت الأخبار الواردة من نيويورك تصب في الاتجاه نفسه، فأخذنا موقفاً متصلباً، وقلنا للسفير الأميركي إننا لن نؤخر التحرك ما لم تطلب منا الأمم المتحدة ذلك. أما هذه الأخيرة فلم تشأ أن تورط نفسها فاكتفت بإبلاغنا أنها تلقت طلباً بعدم تحركنا فوراً نحو الجنوب.

انطلقت الكتيبة التابعة للجيش اللبناني في الرابعة من بعد ظهر السابع عشر من نيسان (ابريل) من وزارة الدفاع، ووصلت إلى محيط مدينة صيدا عند السادسة مساء. وفي اليوم التالي، دخلت محيط بلدة أرزون داخل منطقة عمليات القبعات الزرق تحت وابل من القصف الشديد الذي أطلقته مدفعية قوات الرائد سعد حداد الذي أتبع قصفه بمؤتمر صحافي أعلن فيه قيام «دولة لبنان الحر». فسادت بلبلة في لبنان ونيويورك وواشنطن التي زاد إحراجها تجاهنا بعدما كانت أعربت لنا مرتين عن دعمها لخطوة إرسال الجيش إلى الجنوب، ثم تراجعت بطريقة مثيرة للخيبة.

يتبع

back to top