يبدو لكل متابع جاد للشأن العام في عالمنا العربي في الآونة الأخيرة أن المعركة الوحيدة التي تبقى جذوتها مشتعلة من دون أن تخمد أو تخبو على مدى المساحة من الخليج إلى المحيط، هي تلك الدائرة على «جسد المرأة»، مستهدفة استخدامه بالامتهان من جهة، أو حجبه بالامتهان كذلك من جهة أخرى، وفي ذلك تتفق المجتمعات الحضرية مع البدوية والثرية مع الفقيرة والسنية مع الشيعية والجمهورية مع الملكية.
فمن «أختي حجابك أغلى من دمي»، إلى «الحجاب قبل الحساب»، فـ«تحجبي يا أختاه»، وصولاً إلى الفتاوى بـ«ضرورة النقاب»، و«لون العباءة الأسود وجوباً»، و«النقاب ذي العين الواحدة الخالية من الكحل والزينة»، يتصور المتابع المهتم أن كل مشاكلنا قد حُلت تماماً، وأن أراضينا المحتلة قد حُررت كلها، وأن إشكالنا المقيم مع العلم والمدنية قد حُسم لمصلحتنا، ولم يبق لنا سوى هذا الجسد المنفلت، الذي يجب أن نسخر له كل جهودنا لنحجبه ونغطيه. وعلى الموجة نفسها تخرج الإبداعات التحريمية يومياً، حاملة دعاوى المنع والحجب والمصادرة؛ مرة لموقع إلكتروني ينشر أجساداً عارية ومناظر مثيرة لنساء سافرات، وأخرى لقناة فضائية تبث «كليبات» شهوانية لفتيات شبه عاريات، وثالثة لفيلم أو مسلسل متجاوز، ورابعة لقصة أو رواية تظهر فيها المرأة على نحو غير هذا الذي يجب أن يكون عليه احتشاماً واختباءً. لم يعد الأمر قاصراً على الدول المحافظة في منطقة الخليج، حيث تتعدد الفتاوى المثيرة للجدل وتتوالى يوماً إثر يوم؛ من التحريض على قتل أصحاب «فضائيات العري»، إلى الحض على «تقنين خروج المرأة للأسواق»، و«ضرورة الالتزام باللون والاتساع المناسبين للزي المحتشم الفضفاض»، و«الاقتصار على فتحة واحدة صغيرة» لإحدى العينين الفاتنتين، عوضاً عن ترك الحبل على الغارب لها للإساءة لحياء الشبان واستدراجهم إلى ما لا يحمد عقباه. لكن الأمر تعدى تلك الدول المحافظة ليتفاقم في دول أقل محافظة وصاحبة تاريخ لا يستهان به في إتاحة الفرص للمرأة للعيش في مجتمعها كمخلوق كامل الاعتبار والقيمة، وكشريك للرجل في مضمار العمل الخاص والعام، بل كفاعل وناشط في المجتمع المدني، ومنتج فعال للقيمة في مجالات تبدأ من الهندسة والطب، وتمر بالفن والثقافة، ولا تنتهي عند البرلمان والمشاركة في الحكومة وصنع القرار واتخاذه كالكويت والبحرين.وليت الأمر اقتصر على هذه الدول ذات البنية المحافظة والتقاليد الاجتماعية الراسخة، ولكنه اتسع وتمدد لأسباب كثيرة تحتاج مجالاً أرحب لذكرها، ليصل إلى مجتمعات أقل محافظة وأكثر اتصالاً بالتجليات الغربية، خصوصاً في ما يخص أوضاع المرأة وتشخيص دورها وتقنين أساليب انخراطها في الحياة العامة وتقاليد التعاطي معها. المعركة على جسد المرأة تكرست متواصلة بلا انقطاع أو ملل في لبنان وسورية ومصر، ومن بعدها الجزائر والمغرب والحبل على الجرار.فليس أسرع من التناسل في مصر سوى ارتداء المصريات الحجاب، والأمر نفسه تجد شبيهاً له في مناطق سنية وشيعية عديدة في لبنان وسورية، فيما ساهم المد «الإسلاموي الجهادي» في الجزائر، ومن بعدها المغرب، في افتعال معركة مشابهة على جسد المرأة.والإشكال الذي يحير فعلاً أن التعصب الزائد والتركيز المبالغ فيه في محاولة حجب المرأة عن الحياة العامة أولاً، وعن النظر، إن هي انخرطت فيها جبراً، تالياً، لا يترافق مع مد موازٍ ومفترض في التدين الموضوعي الصحيح، أو تحسن مطلوب في الأخلاقيات العامة، أو ميل إلى الالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية الضرورية والمستمدة من ديننا الحنيف.ويبدو أن المسلم العربي الذي باء بالخسران في معارك التنمية والحداثة والعلم والمواجهة مع المنافسين والأعداء والخصوم في الإقليم وخارجه، لم يجد معركة سهلة يمكنه أن يحقق فيها نصراً خالصاً، سوى تلك المعركة مع جسد المرأة، التي أوقعتها الظروف التاريخية والجغرافية والتقاليد الاجتماعية تحت وصايته.والواقع أن الإصرار المبالغ فيه على تغطية جسد المرأة واعتباره مصدراً للشهوات والشرور ليس إلا، لا يقابله ويوازنه في مجتمعنا العربي سوى ميل مشابه لتعريتها وامتهان إنسانيتها؛ سواء عبر تسليعها في الإعلان والإعلام، أو عبر استخدامها كمحظية ومسرية، باستخدام وسائل العنف والمال، عبر ثنائية الترغيب والترهيب.خدمة كبيرة يقدمها الرجال المنخرطون في المعركة على جسد المرأة في مجتمعاتنا العربية لكل عدو أو خصم أو منافس متربص ببلادنا وبحضارتها وبنا؛ ذلك أنهم انصرفوا تماماً عن كل ميادين النزال الحقيقية، وباتوا متفرغين للمعركة الكبرى، التي يبدو النصر فيها سهلاً قريب المنال؛ فميدان المعركة أوراق الصحف وشاشات الفضائيات، ووسائلها الحوقلة والبسملة والافتئات على الدين، وجمهورها عريض ومنوم ومسلوب العقل وغائم الإرادة، والعدو فيها قليل الحيلة معدوم الوسائل والأدوات؛ إنه المرأة... الأخت والأم والزوجة والابنة.أم المعارك العربية اليوم معركة على جسد امرأة، وهو أمر جد مضحك، لكنه ضحك كالبكاء.* كاتب مصري
مقالات
أم المعارك... معركة على جسد
05-10-2008