عكس مخرجو الموجة الجديدة في سينما الثمانينيات المصرية بشكل أساسي حياة الناس البسطاء وهمومهم. لم يعبروا عن ذلك بعيداً عن الظرف المجتمعي العام، فكثيراً ما جسدوا تأثير توحّش رأسمالية الانفتاح في تلك الحياة، لكن من دون مباشرة فجة أو حديث خطابي أجوف.

Ad

لعلّ أبلغ تعبير عن ذلك، أفلام: عاطف الطيب: «سواق الأتوبيس» و«الحب فوق هضبة الهرم» و«ملف في الآداب البريء»، خيري بشارة: «العوامة 70»، محمد خان: «سوبر ماركت»، داود عبد السيد: «الصعاليك»، رأفت الميهي: «الأفوكاتو»، بشير الديك: «سكة سفر».

سبق تلك الأعمال فيلم «أهل القمة»، من إخراج علي بدرخان الذي بلغ ذروة نجاحه في فيلم «الجوع» المتميّز بمعالجة سينمائية ناضجة عن رواية ملحمة «الحرافيش» لنجيب محفوظ، عرض فيها مواجهة النبل والظلم الذي يتعرض له الإنسان العادي ضد تفشّي التسلّط وقهر الإنسان وإفقاره و{تجويعه»، إنه فيلم عن السلطة وأدواتها والثورة وآلياتها، وعن قيادة الجموع وانفجارها.

لم تتوقّف سينما الموجة الجديدة عند حدود البعد الاجتماعي والحياتي الواقعي للإنسان البسيط والمهمّش، بل تأملت البعد الوجودي والميتافيزيقي، على غرار ما رأينا في أفلام: «البحث عن سيد مرزوق» من إخراج داوود عبد السيد، «الحرّيف» من إخراج محمد خان، «سمك لبن تمر هندي» من إخراج رأفت الميهي.

خرجت كاميرا مخرجي تلك الموجة الجديدة في الثمانينيات إلى الشوارع، فرصدت حياة البسطاء وصوّرتها، كما لم يحدث سابقًا أو لاحقاً في تاريخ السينما المصرية والعربية، ولم تكتفِ بالتصوير داخل البيوت والأبواب المغلقة والاستوديوهات ذات الديكورات التي لا تحمل عبق الأماكن الحقيقية والشوارع مهما كانت مقنعة أو متقنة.

يُعتبر الإنسان العادي القضية الكبرى في سينما الموجة الجديدة، لذلك لم تتطرق إلى قضايا أخرى من الطراز المعتاد للسينما التقليدية. إذا تأملنا تعامل تلك الموجة وأقطابها المجددين إزاء الإنسان العادي، اجتماعياً أو ميتافيزيقياً، نلحظ محبة صافية وإحساساً دافئاً وحرصاً على هذا الإنسان، ونظرة عطف متحدة معه ومتفهمة له في أزماته وأشواقه، أوجاعه ومغامراته، تعثّراته وجنوحه.

«شجن كاميرا»... إذا جاز التعبير.

لفّ هذا الشجن العذب النبيل تلك الموجة السينمائية المجددة، وأعطاها مذاقها الخاص وسرّها.

في فيلم «فارس المدينة»، تأمّل المخرج محمد خان، أحد فرسان تلك الموجة، بعدما قدّم الكثير من أفلامه، وتوقف عند شخصياتها ودروبها وهواجسها وأراد أن يلقي نظرة على ما صنع وأبدع، ويحدد أين يقف الآن وإلى أين يذهب؟ بدا أنه يتمنى مزيداً من التجديد والتنوّع في الأشكال والصياغات السينمائية، فقدم اجتهاداً ومحاولة غير ناضجة في فيلم «الغرقانة»، لكنه لم يوقف الطوفان الذي أغرق السينما المصرية، منذ النصف الثاني من التسعينيات، في تيار آخر مختلف تماماً يبحث عن الضحك للضحك، توافقاً مع الأزمة المأساوية للإنسان المصري وتصاعدها... ذلك الإنسان العادي الذي شغل فرسان الموجة التجديدية بعذوبتها وشجنها ورحابتها!

خيري بشارة، فارس آخر قام بمحاولة مماثلة، لكن بالاتساق خصوصية عالمه، فبعد «الطوق والإسوارة»، ذروة أعماله الواقعية و{يوم حلو ويوم مر» الذي امتزجت فيه الواقعية القاسية بملمح ميلودرامي واضح، اتجه إلى إخراج سلسلة من الأفلام يضيء فيها ويلمّح إلى امتزاج السخرية بالبهجة والتأمل، بدأها بـ «كابوريا» وبلغت ذروتها مع «آيس كريم في جليم» و{أمريكا شيكا بيكا» وربما بدا أقلها نضجاً «حرب الفراولة».

في «آيس كريم في جليم»، توحّد بشارة مجدداً مع الإنسان العادي والمهمّش وقدم إلى السينما العربية أكبر مرثية للإنسان الأيديولوجي «الشيوعي» متمثلاً في «زرياب» الموسيقي، وأعلن عدم انحيازه الى الشاب «الناصري» على الرغم من تعاطفه معه، وأحب بطليه الشيوعي والناصري لكنه قرر أن يسير في صفوف أوسع الجماهير وأبسط القواعد، وليس القياديين والكوادر والطليعة!