بين ألقاب «الأمير رينيه» ـ أمير موناكو الراحل ـ لقب عجيب يربط قرنا ونصف القرن من تاريخ مصر برينيه، وإمارته الفرنسية الصغيرة، التي يبدو أنها لعبت دورا سياسيا أهم وأخطر بكثير من سمعتها ـ الصاخبة والمرحة ـ وأكثر تعقيدا من «كازينو القمار» الذي اشتهرت به موناكو باعتباره معلمها الرئيسي، والوحيد.

Ad

كان الأمير رينيه يحمل لقبا معناه «حامل صليب أخوية محمد علي»، أو «حامل الصليب من طبقة محمد علي»، ولا يكون الصليب «من طبقة» إلا إذا كانت هذه الطبقة تشكل «أخوية» أي أن المعنيين هما في النهاية معنى واحد. والأخوية ـ إن لم تكونوا تعلمون ـ كنيسة صغيرة، تشبه «الزاوية» عند المسلمين من حيث طبيعتها وموقعها بين دور العبادة المسيحية، وكلتاهما ـ الأخوية والزاوية ـ صغيرة المساحة، والمصلون فيها هم ـ عادة ـ أبناء عائلة أو مهنة واحدة، وربما سكان قرية أو حي أو شارع واحد.

عرفنا الأخوية، لكننا لم نعرف لماذا يحتاج «محمد علي» وعائلته إلى «أخوية» لها «صليب» يحمله «الأمير رينيه»؟ ولفهم مدى التناقض في عبارة «حامل صليب أخوية محمد علي» تخيل أنك قابلت شخصا يعمل إماما لـ»زاوية الحاج حنا»!

وإذا كان «محمد علي» رأس الأسرة العلوية كانت له أخوية، فإن آخر ملوكها ودع الدنيا عبر كنيسة، ففي 20 من مارس 1965 تم نقل جثمان الملك فاروق ـ آخر ملوك أسرة محمد علي ـ من دار حفظ الموتى بروما إلى كنيسة صغيرة، قبل أن ينقل إلى القاهرة، فهل كان مكان النهاية «الكنيسة الصغيرة» مصادفة، أم أنه كان إشارة إلى تلك العلاقة الغامضة بين الأسرة العلوية والمسيحية؟

فاروق مات مسلما، لا شك في هذا، بل ظل حريصا حتى آخر يوم في حياته ألا يشرب الخمر، يقول «هيوج ماكليف» في كتابه «الملف السري للملك فاروق عن وجبة «مولانا» الأخيرة أنه «أكل دستة من المحار وجراد البحر، وشريحتين من لحم الحمل، مع بطاطس محمرة وبقول فرنسية، ورفض أكل الفطائر المحلاة لأنهم كانوا قد وضعوا خمورا بها».

بعد هذه الوجبة سقط فاروق «وقد احمر وجهه ويداه مرفوعتان إلى حلقه» ولم تفلح محاولات إسعافه، وكانت الكنيسة الصغيرة في روما هي محطته الأخيرة قبل أن يرحل إلى مصر، فهل كانت مصادفة بحتة، أم أنها إشارة إلى «علاقة ما» يشوبها الغموض بين أسرة محمد علي ـ التي حكمت مصر 148 عاما ـ من 1805: 1953 ـ وبين المسيحية. وإذا كان معروفا أن عددا من أبناء هذه الأسرة أعلن تحوله إلى المسيحية، فالسؤال هو: هل هناك من تحول إليها بدون أن يعلن؟

هل كانت هناك «مسيحية سرية» بين أفراد أسرة «محمد علي»؟ سؤال عجيب، ربما، لكنني أعتقد أن هناك ما يستدعي أن نطرحه لا لنصل إلى إجابة ـ ولو وجدناها لكان حدثا رائعا وفريدا ـ بل لنتحرر من عبء الهواجس والوساوس التي تكمن بين عبارات المؤرخين.

من حقائق التاريخ التي تفتح باب الوساوس أن «فتحية» شقيقة الملك «فاروق» تزوجت «رياض غالي» ـ وهو مسيحي مصري ـ في 25/4/1950، مستهينة بلقبها الملكي ـ الذي جردها شقيقها الملك منه، فلم تعد أميرة ـ ومستهينة أيضاً بثروتها، التي صادرها. كانت مغرمة تماما برجل كان موظفا بالسفارة المصرية بمارسيليا في فرنسا، هو الرجل نفسه الذي استولى على ثروتها، وعندما طالبته برد بعض ما نهبه، أنهى حياتها بست رصاصات من مسدسه.

لم تكن «فتحية» ـ التي أطلق عليها فاروق «الأميرة المتمردة» ـ هي المتمردة الوحيدة، فمعها ـ وقبلها ـ كانت أمها «نازلي» التي شجعتها على هذه الزيجة، وانتقلت لتعيش معها في «لوس أنجلوس»، مما دفع فاروق إلى رفع اسمها الذي كان قد أطلق على أحد شوارع القاهرة، كما حجر على أموالها. واستهترت «نازلي» بكل ما فعله ابنها ولم تبال به، فهل كانت «الملكة الأم» تقرأ الغيب وتعرف أن عمر الأسرة العلوية في مصر بات قصيرا ولهذا تعاملت مع ابنها بصفته «الملك السابق» قبل أن يصبح «سابقا» بعامين وثلاثة أشهر؟

«نازلي» هي الأرملة الطروب التي نافست المطربة «أسمهان» على قلب «أحمد حسنين باشا» رئيس ديوان زوجها الراحل «الملك فؤاد» وابنها «الملك فاروق»، وقال عنها «محمد أمين فهيم» إنها عاشت 17 عاما في ثلاجة و50 عاما مع خمسة رجال، هم: سعيد زغلول ابن أخت الزعيم سعد زغلول، الملك فؤاد، عمر فتحي كبير ياوران الملك، أحمد حسنين باشا، رياض غالي الذي تزوج ابنتها. وهي الزوجة الملكية التي هربت ليلة عقد قرانها ـ سنة 1919 وكان عمرها 25 سنة.. أي كانت شابة ناضجة ـ وباتت عند قريب لها كانت متيمة به، هو «شاهين شريف»، فهل كان تشجيعها لابنتها على الاقتران بـ»رياض غالي» مجرد استكمال لسيرتها ـ التي يصعب جدا وصفها بالاستقامة ـ أم كان إعلانا للانسحاب من طرف واحد من سفينة الأسرة العلوية الموشكة على الغرق؟ ولو كان انسحابا، فمن أين عرفت «نازلي» أن السفينة توشك على الغرق؟