أينما بسطت حضارة الإسلام هيمنتها على وجه الأرض حملت معها تقديرا لا حد له للماء، ولم لا؟ فالوضوء والطهارة من شروط أداء الصلوات المفروضة في الدين الحنيف. وإذا كان الرومان حملوا معهم في أقاليم إمبراطوريتهم قناطر المياه الشهيرة بهم، فإن المسلمين في الأندلس أنبتوا في أنحاء شبه الجزيرة الأيبيرية معارفهم المائية التي خبروها أو توصلوا إليها، سواء في بلاد العرب جنوبا وشمالا أو في المغرب موطن البربر الذين شكلوا عماد جيش موسى بن نصير وطارق بن زياد.انعكست الأساليب المعروفة في مناطق الندرة المائية وموسمية الأمطار بصورة واضحة على ابتكارات المسلمين لتوفير مياه الشرب والري للأراضي الزراعية والتجمعات العمرانية المختلفة، وأدت عناية الفاتحين بشؤون المياه إلى ازدهار الزراعة في بلد مثل إسبانيا لا يمتلك أنهارا بالمعنى الحقيقي للكلمة، بالإضافة الى أنه لا يستقبل إلا كميات متوسطة من مياه الأمطار الشتوية والتي تتناقض كلما اتجهنا جنوبًا.
يعجب المرء من «المسارات» التي كانت تقع خارج أسوار المدن الأندلسية والتي كانت تزدان كمتنزهات يرتادها العامة بالخضرة اليانعة وأنواع الأشجار المثمرة والزهور والورود التي طالما ألهبت خيال الشعراء وأفعمت حياة الأندلسيين بقصص الحب وعشق الحياة ذاتها.
تعطي مدينة مجريط التي شيّدها الفاتحون، وهي راهنا العاصمة الأسبانية مدريد، فكرة واضحة عن عناية الأندلسيين بتزويد مدنهم بالمياه، إذ على رغم وقوع تلك المدينة على نهر المارينز فإن المياه لا تصل إلى هذا النهر إلا لمدة ثلاثة أشهر سنويا، ومن ثم لجأ المسلمون، كما في مواقع أخرى في الأندلس، إلى سحب كميات كبيرة من المياه الجوفية التي تقع في المرتفعات المحيطة بمجريط، وتوصيل العيون ببعضها بعضًا في مجارٍ مائية تصل في نهاية المطاف إلى المدينة الإسلامية لتقتحم شوارعها ودروبها وصولا إلى داخل المنازل، وكأن المدينة تقوم على شبكة أرضية من المجاري المائية التي توفر احتياجات السكان من مياه الشرب والوضوء، بل ومن المياه اللازمة لري الحدائق والبساتين.
بقايا
لا عجب أن نرى اسم المدينة وقد اشتق من اللفظ العربي مجرى مضافا إليه مقطع التكثير {يط} في اللغة القشتالية ليصبح اسمها مجريط قبل أن يتحول في الإسبانية الحديثة إلى مدريد.
من الجدير بالذكر أن الحكومة في بدايات العصور الحديثة وأثناء تطوير مرافق العاصمة الإسبانية كانت تعثر تحت الأرض على بقايا الشبكة العبقرية التي أنبتتها القريحة الأندلسية.
من المعروف أن تلك الطريقة في سحب المياه من المرتفعات كانت شائعة الاستخدام في مناطق عدة من المغرب العربي، ولعل العناصر التي وفدت الى الأندلس من العدوة المغربية هي صاحبة الفضل في تأسيس مدينة مجريط وضمان تزويدها بالمياه على مدار العام.
برهن المسلمون في الأندلس على أنهم بحق رعاة الماء والأكثر استحقاقا لوصف «حماة حضارة الماء»، فبالإضافة إلى عنايتهم بتوفير المياه اللازمة للري وللشرب، أظهر الأندلسيون عناية فائقة بتوفير مصادر الماء للنظافة الشخصية وذلك في إطار حرصهم على التطهّر والاستحمام.
ومما له مغزاه في الدراسات التاريخية والحضارية الأندلسية أن يستدل بانتشار الحمامات أو بالأدق ذيوع مسمياتها والإشارة إليها في القرى والبلدات الإسبانية على مدى تغلغل النفوذ الأندلسي قديما.
يذهب المؤرخ الأسباني أميركو كاسترو إلى أن خريطة القرى التي فيها حمامات أقوى دلالة على المنطقة التي خضعت لتأثير إسلامي ظاهر، وعلى حد قوله فإن بعض قرى قشتالة التي لا تعرف اليوم الحمامات التي يجري فيها ماء ساخن كان يضم في القرن الثالث عشر حمامات عامة ورد ذكرها في لوائح البلدية، منها قرى نورينا وبريمويجا في وادي الحجارة وأوساجري في بطليوس، ومما نصت عليه تلك اللوائح على صاحب الحمام أن يقدم للداخلين فيه الماء الساخن والصابون والمناشف، وهو ما كان متبعا في كل الحمامات الإسلامية في مدن الشرق.
الموريسكيون
من الطريف أن ملوك الأسبان كانوا يعاقبون بقايا المسلمين الذين أخفوا «أدجنوا» أمر إسلامهم والمعروفين باسم المدجنين أو الموريسكيين بحرمانهم من الاستحمام، ذلك أنهم كانوا يعدون حرص هؤلاء على الاستحمام بمثابة دليل إدانة وبرهان دامغ على استمرارهم في اعتناق الإسلام على رغم إعلانهم التنصر وفق إجراءات محاكم التفتيش الشهيرة.
في أعقاب ثورة الموريسكيين في غرناطة عام 1567م، قررت السلطات الإسبانية معاقبتهم بإغلاق حماماتهم وحرمانهم من استخدامها، وقد نشرت أخيرا وثيقة موريسكية رد فيها أحد الموريسكيين على ذلك الإجراء الجائر وهو المواطن فرنسيسكو ننيث مولاي، إذ كتب قائلا: «أقيمت الحمامات لتنظيف الأجسام والقول بأن يجتمع فيها الرجال والنساء مما لا يصدقه عقل والحمامات موجودة في كل مكان ومنتشرة في سائر الأقاليم وإذا كانت أزيلت من قشتالة فما ذلك إلا لأنها تضعف من قوة الرجال وتحمسهم للحرب، أما أبناء مملكة غرناطة هذه فليس عليهم أن يقاتلوا ولا على نسائهم تنشيط قواهن، بل كل ما هنالك حرصهم على أن يكونوا أطهار الأبدان، وإذا كان يحرّم عليهم الاستحمام فيها وفي الينابيع والأنهار والبيوت فإلى أين يذهبون للغسل والاستحمام؟».
وإذا كان من الطبيعي أن تكون الحال كذلك في غرناطة التي سقطت في أيدي الأسبان قبل سبعين عاما فحسب من حادثة إغلاق حمامات المدينة لإجبار الموريسكيين على مغادرتها أو التنصر، فإنه من اللافت أن نلمح تأثير المدجنين في عقر دار المملكة التي حملت الأعباء الرئيسة لحروب الاسترداد المسيحية ألا وهي مملكة قشتالة وليون.
في مدن تلك المملكة المسيحية، عمد المدجنون الذين أخفوا إسلامهم عن ملوك الأسبان إلى إنشاء الحمامات العامة ليوفروا لإخوانهم في الدين فرص التطهّر والاستحمام، وقد ظلت الحمامات مفتوحة إلى قبل سنوات قلائل من ثورة أهل غرناطة عام 1567م.
كان يرتاد تلك الحمامات الرجال والنساء والأطفال، وقد خصص لكل طائفة منهم يوم من أيام الأسبوع كي لا يقع الاختلاط المفضي إلى الفساد، ثم أخذت تلك العادات الإسلامية في الاضمحلال بين نصارى الأسبان، خصوصا في إطار الحرب ضد الإسلام ومظاهره الحضارية.
الحقيقة أن العادات المائية لأهل الأندلس كانت تفرض نفسها على أرجاء إسبانيا حتى في ما يتصل بطقوس الجنازات. من المعروف أن غسل الميت قبل دفنه هو من العادات الإسلامية. ظل أمرا مرعيا في إسبانيا لردح من الزمن، ففي ملحمة فرنان جنثالث (1240م)، يغسل الكونت فرنان عدوه الكونت دي تولوز قبل أن يلفه في الأكفان، وبمثل ذلك تتحدث أيضًا المدونة العامة لألفونسو الحكيم.