شعراء المَحَجِّ الروسي
قد يكتبُ الشاعرُ سيرته بأسلوب روائي، لكن الأكثرَ جاذبيةً حين يُكتبَ عن الشاعر بأسلوبٍ روائي، طرف ثالثٌ مأسورٌ يرقبُ شاعره المفضّل.
الأدب الغربي يفيض بتجربةٍ مثل هذه عن الشعراء والرسامين والموسيقيين، كهذا الكتاب الجديد الذي بين يدي: «أورشليم الروسية» للشاعرة الإنكليزية ألين فينستاين، (دار Carcanet). فينستاين شاعرةٌ، أكاديميةٌ، كاتبةُ سيرة، روائيةٌ، ومترجمة. انشغلت منذُ السبعينيات بترجمة الشاعرة الروسية تسفيتاييفا، وكتابة سيرة حياتها. واليوم، تحت ظلِّ هذا الأسرِ، أخرجت نصاً خيالياً عن رحلة مثيرة للروع، تُشبه رحلة دانتي في الكوميديا الإلهية، إلى روسيا الشعر في عصره الفضي في مطلع القرن العشرين (العصر الذهبي كان في القرن التاسع عشر). بين الشعراء الموتى الذين تألقوا أول القرن العشرين، ثم سحقتهم عجلةُ الثورة التي تحمسوا لها جميعاً، بعد أن نضجت ثمرتُها بشخص ستالين، دليلُها في رحلتها هذه شبحُ الشاعرة تسفيتاييفا. النصُ الخيالي يجمع بين الرواية، المذكرات، التاريخ والسيرة الذاتية، إلى جانب النص الشعري بين فصل وفصل، ولا ينصرف خالصاً إلى فن الرواية، رغم التسمية التي وُضعت على الغلاف. نبدأ مع زيارة المؤلفة إلى مدينة بيترسبيرغ عام 2005، بعد انهيار النظام الشمولي، وعبر البحث عن اللمسات الرقيقة، الحزينة، التي خلفها الكبار: باسترناك، إخماتوفا، مندلستام، تسفيتاييفا، بابل، أهرينبيرغ، وبعد زيارة مقهى «الكلاب السائبة» التي كانت تجمعهم بعد أنْ أغلق مسرحهم الأثير، يُرشدها شرطي مُحبٌ للشعر إلى مدخل، يُشبه مدخل أليس الى بلاد العجائب، للعالم السفلي، ويعطيها الشاعرة تسفيتاييفا كدليل لها يشبه فيرجِل في الكوميديا الإلهية. وإذْ يأخذ فيرجِل بيد دانتي باتجاه رؤيا الفردوس، يبقى الشعراء الروس الموتى أسرى دائرة الجحيم المغلقة التي خلقها ستالين في حملة تطهيره في ثلاثينيات القرن الماضي. ولكن أي درس يُمكن أنْ يمنحه رحيلٌ مُعتمٌ ومُضاء كهذا لخبرة الشاعر المعاصر؟ يبدو أن المؤلفة الشاعرة التي تعرض لعبقرية هؤلاء، لشجاعتهم، وصبرهم، ولون الكابوس الذي أفرز ماساً في أشعارهم، اكتفت في آخر المطاف بالاستعادة، في حين بقيت تنهدات الألم وصرخاته عائمة مُثقلة برائحة الاتهام، ولا مستَقر لها. إن منْ يعرف شعر هؤلاء معرفةً وافية لا شك سيجعلُ من صحبتهم مناسبة تليق بتجليات كتجليات دانتي، ولكن تجليات فينستاين قاهرة لأنها انتخبت أحلك سنوات حياتهم، التي أكلت نصف حياتهم الإبداعية، شاعرٌ عراقي مثلي، ومثل كثيرين غيري، يعرف عن ظهر قلب كلَّ مجسات الكابوس للحكم الشمولي، كمْ ذعرٍ تزاحم في القصائد، كتزاحمِ رائحةِ القتلى والمبادين والمُعتقلين والهائمين في متاهات المنفى الرمادي. ولعلي تقمّصتُ الدور ذاته الذي تقمّصته فينستاين في فصلٍ من فصول كتابي «العودة إلى غاردينيا» (دار المدى2001)، حين ظهرتُ في محلتي القديمة «العباسية» كياناً لا مرئياً، ثم تلبّستُ شخصَ ضحيتين لا شأن لهما بالشعر والسياسة! سوءةٌ واحدة في نص الشاعرة فينستاين أربكته كله، فعنوانُ الكتاب ذو الطبيعة الرمزية واضح الدلالة، وكأنها أرادت به أن يشير إلى أن شعراءَ العصر الفضي الروسي الذين انتهكهم الحكم الشمولي كانوا يهوداً في جملتهم، وأن اليهود كانوا هدف الانتهاك الرئيس لطغيان ستالين، أو أن النظام انتهك كلّ هؤلاء باعتبارهم يهوداً، على افتراض أنهم كذلك، لا باعتبارهم شعراء، لذا بدت رحلة المؤلفة الخيالية المعتمة رؤيا لمملكة اليهودي المضطهد، لا رؤيا لمملكة الشاعر المضطهد. هذه السوءة سلبت الشاعر شرف انتسابه إلى الإنسان البرومثيوسي، لتمنحه الهوية العرقية الضيقة، وسلبت الكتاب شيئاً من عمقه وسمو توجهه، على أن من يُحسن القراءة يعرف كيف ينتزع هذه الشائبة حيث تكون، ليجعل مسرى النص خالصاً للشعر والشاعر.