الجنرال مشرّف الدرس... والثمن
إذا كانت السياسة هي فن حكم المجتمعات ولغة مصالح الشعوب. فهي في الشرق فن الكذب والخداع بل فن الرّهان والارتهان... وهذه السياسة لا نعرف مصدرها ولكنها الأكثر استخداما في الشرق لصلتها الوثيقة بثقافة الحكم القائم على المطلق... والذي لا يملك سوى الوعود وسيلة لإحكام السيطرة وتثبيت الدعائم بل تنفيس الاحتقان من خلال الضخ الدائم لها، مما جعلها مكوّنا مهما في الإدراك وفي آلية التفكير القائمة في الأغلب على اللامبالاة في معظم القضايا العامة وحتى المهمّة منها... ولذلك فردود الفعل الشعبية في أخطر القضايا لا تشكل أهمية نظمية قصوى لأنها إن جاءت فهي عفوية وانفعالية في أغلبها كفقاعات الصابون ولا توجد أداة لتفعيلها سوى الأجهزة الأمنية، البديل الأكثر حرصاً وأمانا مما يسمى بالمعارضة.هذا الشرق بامتداده الاسلامي، كانت له وقفات ديمقراطية غير مكتملة البناء على الطريقة الشرقية أي (حراك بخلفية عسكرية) وهذه الخلفية هي من يحدد حجم الدور وخطوط العرض والطول فيه، أي بمعنى آخر القدرة على الحذف والتعديل بل الإلغاء متى ما رأت لذلك ضرورة، داخلية كانت أم خارجية، ولذلك فلا غرابة من المشهد التركي أو الباكستاني إن قبض العسكر على الدّمقرَطة أو أفرجوا عنها... فهي في النهاية ملك يمينهم مهما امتدت مدنيّتها وتعاظم دورها شعبياً، (واسألوا الغرب إن كنتم لا تدرون).
ندرك تماماً أن الحضور الديمقراطي المهم في كلا الدولتين قد أفشل الخطط في إقصاء «العدالة والتنمية» في تركيا... وأجبر برويز مشرف على الرحيل في باكستان ولكنه لم يمنع العسكر يوماً من التدخل في الشأن العام إن أرادوا... ولم يستطع أن يقلّم أظْفارهم في تقويض الحياة المدنية وحصر مهماتهم في الشأن الدفاعي فقط، ولذلك نراها، أي المؤسسة العسكرية، دائمة التربص بالسلطة منتظرة أي احتقان لتقضم الشرعية... وهذا ما فعله الجنرال مشرّف في باكستان عندما أقصى الشرعية، نواز شريف، وغلّفها بمظروف وأرسلها لجوءاً إلى الخارج معلنا فسخ العقد الديمقراطي مع الدولة انسجاما مع شرعة العسكرة، وإيذانا ببدء المهمة الطالبانية ذات الشرعية الدولية التي كلفت باكستان غاليا وعلى كل الصعد، والتي غوّرت الشروخ في كل مناحي الحياة الاجتماعية منها والأمنية والقبلية والاقتصادية مع الازدياد المطرد بالعنف، مما بات يهدد أسس وركائز الدولة... وهذا الثمن الباهظ هو نتيجة طبيعية للعسكرة ولحروبها بالوكالة التي تمدها بالدعم وتمنحها الشرعية على حساب كل الشرائع الوطنية من أمن وسيادة، وهي بالنهاية مهما أخلصت بالمهمة الموكولة اليها ومهما غامرت بالحاضر والمستقبل فلن تنال من الغرب أكثر من درجة «متعاقد» أو «وكيل بالعمولة» في أحسن الاحوال، وتلغى الوكالة بانتهاء المهمة، وها هو مشرف يرحل مخلفا وراءه فواتير يصعب سدادها من دون أن يسمع كلمة إطراء واحدة ممن تفانى في خدمتهم، وفي طاعة أوامرهم. بل تركوه لمصيره كما تركوا غيره من قبل بقول السيدة رايس «مسألة لجوء مشرف إلى أميركا غير مطروحة الآن» بعد أن قدم وطنه قربانا لمصالحهم.تراكم رواسب العسكرتاريا يؤكد الحاجة الملحة إلى الديمقراطية أو إلى عودتها- بعد الإبعاد القسري- لإزالة تلك الرواسب وتلك الأكوام من الانهيارات التي أصابت النسيج الاجتماعي والمؤسساتي من جراء سلوكها الاستبدادي الذي قوض دورها الدفاعي لحساب الاستئثار الداخلي، والوطن العربي هو أكثر من دفع الثمن لهذا الاستئثار ولهذا التراكم الذي يتعاظم لدرجة «التهديد البيئي» ودونما اكتراث من النظم التي لا ترى في سلوكها إلا إنجازا وطنيا بامتياز... وأميزه هو الاستقرار الأمني الذي تفتقده حتى أعرق الدول الديمقراطية، وهذا يكفي للدلالة على المناعة وعلى صوابية التوجه حسب زعمها.بعد عودة التنفس للرئة الباكستانية أصبحت بأمس الحاجة إلى الورشة الديمقراطية التي تجمع ألوان الطيف رغم العضال الطائفي والقبلي لترميم ما يمكن ترميمه للحاق قدر الإمكان بعجلة النمو وبجارتها الهند التي تعالت على الجراح وأمسكت بخيط النهوض وباتت على مقربة من القفزة الحضارية فهل نتعلم؟!