إن اليورو يعاني أوجه قصور بنيوية واضحة. فهناك بنك مركزي يديره ولكن لا وجود لخزانة مركزية تحفظه، والإشراف على النظام المصرفي في منطقة اليورو متروك للسلطات الوطنية. وهذه العيوب تُـخَلِّف تأثيراتها الملموسة على نحو متزايد، وتؤدي إلى تفاقم الأزمة المالية سوءاً.

Ad

بدأت العملية بشكل فعلي في أعقاب انهيار «ليمان براذرز»، حين اكتشف وزراء المالية الأوروبيون في الثاني عشر من أكتوبر 2008 أنهم لابد أن يطمئنوا جماهير الناس إلى أنهم لن يسمحوا بانهيار أي مؤسسة مالية كبرى أخرى. ولكن في غياب الخزانة المركزية، وقعت هذه المهمة على عاتق السلطات الوطنية. ولقد أدى هذا الترتيب إلى أزمة مالية مباشرة وحادة في البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي لم تنضم بعد إلى منطقة اليورو، وفي النهاية أدى إلى زيادة حدة التوتر في منطقة اليورو ذاتها.

إن أغلب أرصدة الائتمان في البلدان الأعضاء الجديدة يوفرها بنوك منطقة اليورو، وأغلب الديون الأسرية مقومٌ بالعملات الأجنبية. وبينما سعت بنوك منطقة اليورو إلى الفوز بحماية بلدانها الأصلية، بإعادة رؤوس أموالها إلى الوطن، فقد خضعت أسواق العملات والسندات في أوروبا الشرقية لضغوط كبيرة، وأصاب الوهن اقتصاد هذه البلدان، وتضاءلت قدرة الأسر على تسديد أقساط ديونها. وعلى هذا فقد لحِق الضرر بدفاتر موازنة البنوك التي تتعامل مع أوروبا الشرقية بكثافة.

وأصبحت قدرة الدول الأعضاء على حماية بنوكها موضعاً للشك والارتياب، كما بدأت الفوارق بين أسعار الفائدة على سندات الحكومات المختلفة في الاتساع على نحو لا ينذر بالخير. فضلاً عن ذلك، وفي إطار محاولاتها الرامية إلى حماية بنوكها، انزلقت الجهات الوطنية المسؤولة عن التنظيم عن غير قصد إلى سياسات أنانية لتحقيق مصالحها على حساب الآخرين. وكل هذا يسهم في تفاقم حدة التوترات الداخلية.

ولكن في الوقت نفسه أظهرت الأزمة المالية المتجلية المزايا المترتبة على وجود عملة موحدة على نحو مقنع. ففي غياب مثل هذه العملة الواحدة ربما كانت بعض بلدان منطقة اليورو لتجد نفسها في مواجهة نفس المصاعب التي واجهتها بلدان أوروبا الشرقية.

فالضرر الذي لحق باليونان على سبيل المثال أقل من الضرر الذي لحق بالدنمارك، رغم أن أساسها الاقتصادي أضعف. وربما يكون اليورو واقعاً تحت الضغوط الآن، ولكنه وجِد لكي يبقى. فلا شك أن البلدان الأعضاء الأضعف ستتمسك به؛ وإن كان هناك أي خطر فهو قادم من أقوى أعضاء منطقة اليورو، ألمانيا.

إن موقف ألمانيا في التعامل مع الأزمة المالية متناقض مع مواقف أغلب بلدان العالم، ولكن من السهل أن نفهم السبب وراء ذلك. إذ إن ألمانيا لم تنس الواقعة التاريخية التي شهدتها ثلاثينيات القرن العشرين، حين أدى التضخم الجامع في جمهورية فايمار إلى صعود هتلر. وفي حين أدركت بقية بلدان العالم أن السبيل لمواجهة انهيار الائتمان تتلخص في توسيع القاعدة النقدية، فإن ألمانيا مازالت معارضة لأي سياسة قد تحمل بذور التضخم في نهاية المطاف. فضلاً عن ذلك، ورغم أن ألمانيا كانت من أشد أنصار التكامل الأوروبي، فإنها أصبحت الآن وعلى نحو مفهوم عازفة عن القيام بدور الممول لعمليات الإنقاذ في منطقة اليورو.

بيد أن الموقف الآن يتطلب الإصلاح المؤسسي بشدة، ولا شك أن ألمانيا ستستفيد من الإصلاح بقدر ما قد تستفيد منه أي دولة أخرى. والحقيقة أن إنشاء سوق لسندات حكومات منطقة اليورو من شأنه أن يجلب منافع فورية، فضلاً عن تصحيح القصور البنيوي.

إن هذه السوق من شأنها على الأقل أن تضفي نوعاً من المصداقية على عملية إنقاذ النظام المصرفي وأن تسمح بتوفير قدر أعظم من الدعم لبلدان الاتحاد الأوروبي الأحدث عضوية والأشد عُـرضة للخطر. ومن شأنها أيضاً أن تخدم كآلية لتمويل السياسات المالية المضادة المنسقة بين البلدان الأعضاء. ومن خلال التنظيم الهيكلي السليم فإن هذه السوق من شأنها أن تخفف من حدة انزعاج ألمانيا إزاء اضطرارها إلى مساعدة بلدان أخرى.

ستتكامل أسواق السندات والأوراق المالية ولكنها لن تحل في محل أسواق السندات الحكومية التابعة للدول الفردية. حيث ستظل تحت سيطرة وزراء مالية منطقة اليورو. وبهذا تصبح عملية ضبط النظام المالي موكولة إلى البنك المركزي الأوروبي، بينما تصبح مهمة ضمان المؤسسات المالية، وإنقاذها إن لزم الأمر، موكولة إلى وزراء المالية.

وهذا من شأنه أن ينتج نظاماً مالياً موحداً ومدعوماً داخل منطقة اليورو. حتى أن المملكة المتحدة التي تناضل ضد نظام مصرفي مفرط الحجم وضئيل التمويل، قد يدفعها الإغراء إلى الانضمام.

من الممكن أن تستخدم سندات منطقة اليورو لمساعدة البلدان الحديثة العضوية في الاتحاد الأوروبي والتي لم تنضم بعد إلى منطقة العملة الموحدة. ومن الممكن أن تخدم أيضاً كأداة لزيادة قدرة الاتحاد الأوروبي على الإقراض إلى ما هو أبعد من الصلاحيات الحالية التي يتمتع بها بنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية. وبهذا يصبح بوسع الاتحاد الأوروبي أن يمول برامج الاستثمار التي تجمع بين وظيفة عكس الدورات الاقتصادية وبين الأهداف الأوروبية المهمة، مثل إنشاء شبكة كهرباء موحدة، وتمديد شبكة من خطوط أنابيب الغاز والنفط، والاستثمار في مشاريع الطاقة البديلة، ومشاريع الأشغال العامة القادرة على خلق فرص العمل في أوكرانيا.

إن هذه الاستثمارات كلها من شأنها أن تساعد في كسر القبضة الروسية المحكمة على أوروبا. والاعتراض بأن هذه الاستثمارات ستستغرق وقتاً أطول من أن يسمح لها بالعمل على عكس الدورة الاقتصادية مرفوض على أساس أن الركود أيضاً من المرجح أن يستمر لمدة طويلة.

ولكن هناك قضيتان شائكتان لابد من حلهما: أولاً، توزيع أعباء الديون بين البلدان الأعضاء، وثانيا حصص التصويت النسبية التي سيحصل عليها كل من وزراء مالية منطقة اليورو. إذ إن ألمانيا ستنظر إلى بعض السابقات القائمة- وعلى وجه التحديد، ميزانية الاتحاد الأوروبي وتأليف البنك المركزي الأوروبي- باعتبارها غير عادلة وغير مقبولة.

ورغم أن العديد من البلدان الأعضاء سيقاوم الضغوط الرامية إلى حملها على قبول حل من شأنه أن يؤدي إلى تغيير توازن الداخلي للقوى في الاتحاد الأوروبي، فإن بعض التنازلات سيكون ضرورياً لإقناع ألمانيا بالمشاركة. ويبدو أن الأمر يستلزم دوماً حدوث أزمة أو كارثة لحمل الناس على قبول التسويات أو الحلول الوسط، ولكن الأزمة تختمر الآن، وكلما أسرعنا في حلها كلما كان ذلك في مصلحة الجميع.

* جورج سوروس | George Soros ، رئيس مجلس إدارة صندوق سوروس ومؤسسات المجتمع المفتوح، ومؤلف كتاب «مأساة الاتحاد الأوروبي: التفسخ أو الانبعاث؟».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».