السيرة الذاتية لطائر الصحراء - 29
البلبل الحمار
قلت في الحلقة السابقة إنني التقيت الشاعر (غيلان) في مقهى الليترنيا بدمشق، لتوقيع نسخ من الاشتراك في مجلة «الرصيف» الخاصة بالشعراء الصعاليك. أسمعني غيلان شعره الرائع حقاً، بعد أن ملأ الطاولة بمختلف الأصناف وهو يأمر وينهى و«يزف» الجراسين كسيد معتبر ومضيف كريم. وكان من الشجرة آنذاك يتدلى قفص به بلبل رائع التغريد أشجانا بالفعل مع قصائد غيلان الذي قاطعه بالقول اسمع «يا أبو الغول» ما أروع تغريد هذا البلبل، لكنه اكفهر وقطب حاجبيه وقال لي «ما عليك منه هذا زمال- أي حمار- وليس بلبلاً!» ثم راح يسرد لي قصته مع هذا البلبل إذ قال: ذات يوم كنت وحدي في هذا المقهى وكان الأخ أي البلبل يغرد تغريداً حزيناً يقطع نياط القلب وقد ربطت حزنه، كشاعر، أنه يرنو إلى الحرية والانطلاق مثل أي طائر في الكون، ولأنني عانيت كثيراً من حبسي الحرية، وأعرف قيمتها لدى الكائنات، حينما كنت معتقلاً في «نقرة السلمان» بأمر من ابن الفاعلة صدام، فإنني قد تسلقت هذه الشجرة في غفلة من عمال المقهى ثم فتحت للبلبل القفص وقلت له: حريتك معك فأنت لم تخلق للأقفاص ولكن البشر كلهم «صداميون» صغار، ثم انطلق إلى الفضاء حتى ابتلعته زرقة السماء وحينها، الكلام لم يزل لغيلان، قد نمت تلك الليلة سعيداً؛ لأنني أفرجت عن سجين لا ذنب له سوى التغريد مثل أي شاعر عراقي يقبع في سجون صدام الآن، ولكن تصور يا أخي ان هذا البلبل بالذات يبدو لي أنه من أصل عربي أدمن قمع الحرية ولم يعد بمقدوره العيش إلا تحت الذل على خلاف سائر الشعوب! تصور يا أخي أن هذا البلبل الذي منحته الحرية وأطلقته من القفص قد عاد في اليوم التالي ليقف «فوق» قفصه ثم قبض عليه النادل (لورنس) وأعاده داخل القفص، فبربكم هل تعتبر هذا بلبلاً أم حماراً؟! لذلك فقد أسماه الزبائن من الشعراء والفنانين «زمال غيلان»، فدعك منه ودعنا نتحدث عن الاشتراكات في مجلة الرصيف، ثم كم تدفع أنت دعماً لها ومؤازرة لأصدقائك الصعاليك؟! فقلت له: أبشر يا أبا الغول سيكون دعمي سخياً بالفعل وأثناء ابتهاجه بهذا القول امتدت يدي خلسة إلى سلسلة مفاتيحه التي كانت ملقاة على الطاولة ووضعتها في جيبي دون أن يشعر، ثم استأذنته بالخروج إلى الحمام الذي يقع قرب الباب الخارجي، الذي كان موارباً عن مجلسنا على الطاولة، ثم أطلقت ساقي للريح تاركاً غيلان تحت رحمة نادل المطعم الضخم، الذي جعله يدفع الثمن غالياً ويتعلم كيف «ينصب» على الآخرين. *** وجدت «سيف الرحبي» في الشقة ورويت له كيف نصبت على غيلان وتركته بين براثن لورنس النادل فضحك سيف كثيراً وقال لي: حسناً فعلت بهذا الوغد، وسيكون هذا الحدث درساً له يتندر به كل المثقفين والشعراء من رواد المقهى، وهذا ما حصل بالضبط؛ إذ أعلمنا النادل أنه بعد هروبي المبيّت أصلاً وطال انتظار غيلان جاءه مدير المقهى وطلب منه أن يدفع الحساب وإلا سوف يسلمه للشرطة، برغم أنه تحجج أن ذاك الخليجي الوغد هو الذي دعاه إلى هذه الوليمة الباهظة وهرب!! ولكن لورنس قال له: اسمع يا غيلان أنت الذي كنت تطلب و«تتبغدد» علينا وليس الخليجي الهارب، وبالطبع لأن غيلان لم يملك «شروى نقير»، حقيقة لا أعرف معنى هذه الجملة!!، أقول لأن غيلان لم يكن يملك شيئاً فقد اكتفى صاحب المقهى بضربه «كم بوكس» وقرر حرمانه من «الاعتياش» على طاولات رواد المقهى كما هي طريقته ومجموعة الرصيف، وكانت تلك كارثة قد حلت عليه ولم تكن في الحسبان. *** في المساء عرجنا سيف وأنا على «آن» في الفندق واصطحبناها لتناول القهوة في الليترنيا، وقد كان المقهى يضج بحكاية الشاعر الخليجي الذي نصب على غيلان؛ إذ إن ذلك يعتبر حدثاً نادراً بالنسبة إلى المثقفين لاسيما أن غيلان وشلته من أمهر النصابين في دمشق وبيروت، وحينما سمع الصديق الراحل الشاعر الكبير ممدوح عدوان تلك الحكاية منّي بالتفصيل اتجه إلى حائط المقهى وقلب لوحة رسمت على ورقة كبيرة لصديقنا الفنان المبدع مصطفى الحلاج، وكتب على ظهرها بالخط العريض «شاعر عربي ينصب على غيلان، من يعرفه فله جائزة مقدارها عشاء فاخر وثلاثة آلاف ليرة عداً ونقداً»، للمتسابق أن يكتب اسمه ويرشح الشاعر النصاب وله المثوبة والأجر!!