من الرق إلى السلطنة, ومن الحريم إلى العرش ومكائد الرجال, صعدت الشركسية شجرة الدر في مسيرتها التي لم تدم طويلاً.

Ad

هذه التركية التي حملها تجار الرقيق من بلاد الجركس لتباع للأثرياء الراغبين بشدة في مثل تلك الشقراوات, آلت بفضل جمالها الفائق إلى حريم الأمير الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل.

أنجبت الجارية لسيدها ولده خليل, فصارت حرة وأم ولد, وأثبتت إخلاصها لنجم الدين أيوب حتى صارت أحب زوجاته إلى نفسه خاصة بعد أن صحبته وهو بالشام ثم سارت معه إلى حصن الكرك عندما أمر الملك الناصر داوود بحبسه في هذا الحصن, فقاست مع نجم الدين الأهوال والمحن أثناء اعتقاله.

ولما تولى الملك الصالح نجم الدين أيوب حكم مصر انتقلت معه شجرة الدر وشاءت الأقدار أن يهاجم الفرنجة مصر انتقاماً من نجاح الصالح وحليفه الخوارزمي في استرداد بيت المقدس من تحالف الملك الناصر داوود مع بقايا الصليبيين بالشام. ونجحت قوات الغزو بقيادة لويس التاسع في احتلال دمياط في 6 يونيو 1249م وتوفي نجم الدين مريضاً في 23 نوفمبر من نفس العام, لتجد شجرة الدر نفسها وحيدة بعد موت طفلها خليل, وكان عليها أن تقود مماليك زوجها في الدفاع عن مصر.

لم تجد شجرة الدر أي صعوبة في القيام بدور «السلطانة», فهي مثلها في ذلك مثل مماليك زوجها, لقد ألفت في بلادها ومنذ القدم تولي النساء لشؤون الحكم, فضلاً عن أنه كان لجمالها وقوة شخصيتها أكبر الأثر في أن تتقلد غالب تدبير الديار المصرية في حياة سيدها الملك الصالح وفي مرضه وبعد موته.

ولأن شجرة الدر كانت «ذات عقل وتدبير ودهاء» حسبما يذكر المؤرخ الصفدي, فقد كتمت خبر موت زوجها عن كل من كان بالقصر حتى لا يفت ذلك في عضد الجيش الذي كان يستعد لمعركة المنصورة, وصارت شجرة الدر توقع على الأوراق والمناشير بعلامة تحاكي بها علامة أو توقيع الملك الصالح وتقول لكل من يطلب مقابلة زوجها إنه مريض «السلطان ما هو طيب» وتمنع الناس من الدخول إليه وكان أرباب الدولة يحترمون رغبتها ويطيعون أمرها.

ولم تعلن المرأة الحديدية نبأ موت زوجها إلا بعد أن استدعت ابنه الأكبر توران شاه من حصن كيفا لاستلام عرش أبيه. ولكن الشاب الغر عاند شجرة الدر واستفز مماليك والده الذين انتشوا بعد انتصارهم على الصليبيين وأسر ملكهم لويس, فكان مصيره القتل.

بعد مقتل توران شاه أصبحت شجرة الدر بمبايعة المماليك لها سلطانة رسمية لانتمائها بشكل أو بآخر إلى البيت الأيوبي.

ولما كانت السلطانة الجديدة تدرك حرج موقفها أمام بقية أمراء البيت الأيوبي وأيضاً أمام الرأي العام والخليفة العباسي في بغداد بسبب غياب سوابق تاريخية تولت فيها النساء سدة الحكم في العالم الإسلامي, فقد اتخذت بعض الإجراءات «التحفظية» لتخفيف حدة الانتقادات ضدها.

فقامت بحذف اسمها من الخطبة بالمساجد وأيضاً من النقود, وكلاهما من شارات الملك الرئيسية آنذاك مكتفية تارة بأنها «والدة الملك المنصور خليل» وهو توقيعها على الوثائق الرسمية للدولة أو بإضافة نسبتها إلى زوجها «الصالحية» وإلى الخليفة العباسي «المستعصمية».

وكان الخطباء يدعون لها على المنابر بقولهم «واحفظ اللهم الجهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية صاحبة السلطان الملك الصالح».

ولكن ذلك لم يشفع لها أمام الخليفة في بغداد الذي أرسل لأهل مصر قائلاً: « أرسلوا إلينا إن كانت قد عدمت الرجال لديكم لنسير من يحكمكم».

وبعد ثمانين يوماً من حكم مصر قامت شجرة الدر بالتنازل عن العرش لأحد قادة المماليك وهو عز الدين أيبك الذي تزوجته لتمنحه «صلة» ما بالعرش, وأرادت أن تحكم البلاد من وراء الستار, ولكن أيبك الذي تخلص من أقطاي, أكبر منافسيه على العرش عزم على إذلال المرأة الحديدية بالتزوج من أخرى خاصة أنها كانت تتحكم في كل حركاته وسكناته حتى منعته من زيارة زوجته الأولى ودبرت شجرة الدر أمر قتله وهو بالحمام, فاشتد الطلب عليها من مماليك المعز أيبك, واضطروا إلى منحها الأمان بعد أن امتنعت في القلعة.

فلما كان التاسع والعشرون من ربيع الأول سنة 648هـ أي بعد أسبوع من مقتل أيبك أخرجت شجرة الدر من دار السلطنة إلى البرج الأحمر «أحد أبراج قلعة الجبل» فحبست به ومعها بعض جواريها حتى وجدت في الحادي والعشرين من ربيع الآخر مقتولة مسلوبة خارج القلعة, فحملت إلى التربة التي بنتها قرب مشهد السيدة نفيسة حيث دفنت.

وقيدت الجريمة ضد مجهول معلوم وهي الزوجة الأولى لأيبك التي قتلت المرأة الحديدية هي وجواريها ضرباً بالقباقيب الخشبية.