دردشة على ضوء الشموع
في جلسة مسائية لطيفة، وعلى وقع الأخبار الصادحة من التلفزيون حول غزة عشية وقف إطلاق النار، اجتمع الأصدقاء والأقرباء. أحاديث متقطعة عن الصحة والعمل والعائلة، لا تلبث أن تصمت لتصغي إلى نشرة الأخبار المستمرة. فجأة، انقطعت الكهرباء، مع أن ساعات التقنين المخصصة لهذا الحي عادة ما تكون في الصباح كما يؤكد أهل البيت.مع إضاءة الشموع وصمت التلفزيون، سُمعت أصوات محتدة بين العجوز الغاضب والشاب النزق من حيث يجلسان في ركن قصي من الغرفة. لشدة ما بدا الحديث متشعبا، لم يعلم أحد بالضبط عن أي شيء يدور النقاش وأين بدأ؛ عن الديمقراطية أو المقاومة أو الاستبداد أو الاحتلال، أو ربما عن تقنين الكهرباء. ولأن كلا العجوز والشاب ينحدران من خلفية سياسية وإيديولوجية واحدة، ولأنهما يلتقيان على معظم قضايا الأمة والعالم، لم يعرف الأصدقاء تماما موضع الخلاف في الرأي بين الاثنين. لكن الشاب، بغتة، وضع النقاط على الحروف حين أنهى الجدال بكلمات واثقة وبصوت مرتفع، مفسراً بشكل جلي لماذا لا يستطيع ذاك العجوز أن يتفهم وجهة نظره الصحيحة حتما كما يقول.
«أنتم جيل الهزيمة، بل الهزائم، النكبة والنكسة وسواها، أما نحن فجيل الانتصارات، صيف لبنان وشتاء غزة وسواها». تعثرت الكلمات في فم العجوز ولاذ بالصمت، ولم يعرف أحد إن كان ذلك موافقة ضمنية على تصريح الشاب أم تعبيرا عن الصدمة والذهول.لكن جدلا جديدا ما لبث أن اندلع بشكل أكثر حدة هذه المرة، أصحابه ما بين الجيلين الأولين المتحاورين. بدا أنهم غير راضين عن الهزء المبطن من قبل الشاب تجاه العجوز المتحدر من جيل الهزيمة، وكأنه يحمله وأترابه عبئها وإثمها. تحدثوا عن أن جيل الهزيمة ذاك وبقية من أفكاره، هو ما يشكل ما يعتبره الشاب اليوم زمن الانتصارات ورموزها، وذكروا أسماء وتواريخ ووقائع، واستشهدوا بالبحر والثورة والصمود وعدد الشهداء والكيلومترات الضائعة وتلك التي ضاعت من ثمّ، وأيضا التي تضيع في الوقت الحالي. لكن عندما اقترب الجدال من محاولة تحديد معاني الهزيمة والنصر، تحول الوضع إلى حرب شبه حقيقية. لم تصب كؤوس أخرى من الشاي، وازدادت كثافة دخان السجائر حتى ضاعت الظلال المنعكسة على الجدران. الشاب الجامعي وفريقه، يتحدثون بكبرياء تثير الإعجاب، وبفخر يدل على نفوس عزيزة وأبية، يؤكدون استعدادهم للتضحية بكل ما يملكون للنيل ممن يستبيحون كرامة الأمة وحياة أبنائها، ويعبرون عن غضبهم من التخاذل والهوان والضعف العربي الرسمي، ويعتبرون أن ما يُدفع من أثمان باهظة دماء وأرواحا، ليس بالشيء غير الاعتيادي، فهو الثمن الذي تدفعه أي أمة لقاء حريتها، يقولون. وشباب جيل ما بين الجيلين، يأخذون عليهم ضيق نظرهم وانحصاره في زاوية واحدة وحيدة، يمطرونهم بأسئلة مستنكرة، حول كيف من الممكن أن يعتبروا أنفسهم جيل انتصارات، ومعظمهم عاجزون عن تأمين مصروفهم الشخصي، يدرسون مناهج بائسة، لا يجرؤون على رفع النظر أو الصوت خارج أيام الانتصارات، وينتظرهم مستقبل مظلم من البطالة وضياع الأحلام، وأقصى آمالهم الحصول على فيزا إلى بلاد الإمبريالية والمعايير المزدوجة. جيل الشباب اعتبر ذلك خلطاً للأوراق غير مبرر، ونعت خصومه بأنهم بقايا جيل الهزيمة البائس والمنكسر، والخصوم نعتوا جيل الشباب بأنهم جيل الأوهام الجديد، المستعيض عن صناعة حاضره ومستقبله بالخطابات النارية والأغاني الثورة المنتهية الصلاحية. تجهمت الوجوه وحل غضب ثقيل محل أجواء الود والتلاقي التي سادت أول الأمسية، وقام الشاب الجامعي النزق من مكانه متذرعا بصداع ألمّ به للرحيل وتضامن معه فريقه، وأسرع الخصوم بالوقوف أيضا متذرعين بأعمال في الغد الباكر، وغادروا سوية بعد أن تبادلوا عبارات تحية جافة. غادر الكهل أيضا بصمت، ولم يكن قد شارك في الجدل اللاحق ولو بكلمة، وبعد أيام، وحين سئل عن سبب صمته ولماذا لم ينحز إلى أحد الطرفين أو يبدي رأيا فيما قيل، عبر عن ضيقه الشديد لأن شباب هذه الأيام لا يحترمون أحداً أو رمزاً أو تاريخاً كما قال، وأنه لا فائدة من مجادلة أي من الطرفين، فالأول، يعتبره وجيله ممثلا للهزائم الماضية، والثاني، يعتبره وجيله مقدمة للهزائم الحالية، وكأنه لم يكن من تاريخ قبله، وكأن الحاضر لن يصبح تاريخاً غدا! ثم إنني مثلهم جميعا، لم أشارك لا في هزيمة ولا في انتصار واكتفيت بسماع الراديو ومشاهدة التلفزيون عندما تكون الكهرباء غير مقطوعة، ختم حديثه.* كاتبة سورية